قراءة في فيلم “المنصّة” (The platform)

دونكيشوت جديد من أجل استعادة معنى الانسان

"الحياة" ـ كما يصفها نيتشه ـ «أرحب من مفاهيم العقل وشرنقات الفلاسفة التي تجمّد نهر الصّيرورة، وتعتقد أن المفاهيم هي نتاج العقل باستنباطه من ذاته»؛ وهي الفكرة ذاتها التي ألّفها "دافيد ديسولا" و"بيدرو ريفيرو"، وأخرجها الإسباني "غالدر غوستيلو أولوديا" في فيلم "المنصّة" (The platform)، ليتولى فيه "إيفان ماساغي" دور البطولة، يرافقه "ثوريون إيغليور" في دور "تريماغاسي" و"إيميليو بوالي كوكا" في دور "باهارات"، ولقد صدر الفيلم في أثناء سبتمبر 2019، وبدأ توزيعه خلال فيفري 2020، ليطرح سؤال الوجود في قالب فنيّ راق يستعيد لحظة الانتقال الكبير التي استفزّها ميغيل دي سيرفانتيس ـ أوّل مرّة ـ من مغارة الحامّة بالجزائر..

كتب: محمد كاديك

ثوريون إيغليور (تريماغاسي)
ثوريون إيغليور (تريماغاسي)

يلقي أولوديا بمتفرّج "المنصّة" إلى غياهب سجن استثنائي عجيب، بُني على شكل برج يضمّ كلّ مستوى منه زنزانة يتوسّط أرضيتها فراغٌ مستطيلٌ يسمح بمرور منصّة إسمنتية ضخمة عبر كل المستويات تنازليّا من الأعلى إلى الأسفل، ما يجعل الفراغ أشبه بـ"حفرة" عميقة تسمح للمساجين ـ في كل المستويات ـ بأخذ حاجتهم من الطّعام الذي يصلُهم عبر تلك المنصّة؛ والعجيب أن السّجن لا يجمع المجرمين كما هي عادة السّجون، وإنّما يستقبل النّاس الذين يرغبون في الحصول على شهادات أو إجازات تسمح لهم ـ بعد قضاء المدّة ـ بعيش أفضل، وهو ما يعني أن النّاس يختارون العيش في السّجن بمحض إرادتهم، بل إنّ الإدارة تسألهم عمّا يحبّون من أكل، وتضيف النّوع المحبّب إلى قائمة المأكولات التي تحضّرها للمساجين؛ وفوق هذا، فإنّ قانون السّجن يتيح لكلّ نزيل أن يُدخل معه أيّ شيء يريد، دون استثناء..

  • حكاية"المنصّة"..
إيفان ماساغي (غورينغ)
إيفان ماساغي (غورينغ)

تبدأ أحداث الفيلم حين يستيقظ غورينغ (إيفان ماساغي) في زنزانة المستوى الثّامن والأربعين، ويبدأ باكتشاف طقوس الحياة بالسّجن حين يقف على أوّل سؤال يطرحه العجوز تريماغاسي: «المهم الآن، ماذا نأكل؟»، فلا يستوعب غورينغ سؤال رفيقه في الزّنزانة إلا حين يرى المنصّة المحمّلة بالطعام تتوقّف أمامه، ويلاحظ بأنّ نزلاء المستويات العليا عبثوا بالأكل إلى درجة أنّه أصبح مقزّزا، لهذا يتعفّف عنه، ويكتفي بتفاحة يضعها في جيبه؛ ولكنّ المنصّة لا تلبث سوى دقيقتين ثم تغادر إلى المستوى الأدنى، ويضطرّ غورينغ إلى إلقاء التّفاحة من جيبه، حين يكتشف بعد ثوان معدودة أنّ القانون يفرض عدم الاحتفاظ بأيّ طعام، وأنّ مخالفته تكلّف التحوّل إلى رماد حرقا، أو التّجمد في الزنزانة..

وتتواتر الأحداث، فيوقن غورينغ أنّ النّظام الذي تتّبعه إدارة السّجن في توزيع الطّعام غير عادل، وأنّ المساجين جميعا يمكن أن يأخذوا حاجتهم من الطعام إذا التزموا منه بالكفاية، لكن واقع الحال يحدّث عن مساجين بالمستويات العليا لا يتركون شيئا لمساجين المستويات الدّنيا الذين تصلهم المنصّة خاوية إلا من آنية مبعثرة، لتتركهم في مواجهة الجوع؛ وهو ما يفرض منطق القوّة حين يضطرّ السّجين إلى العيش على لحم زميله في الزّنزانة؛ وهي التّجربة التي يعيشها غورينغ حين يستيقظ في شهره الثّاني، بالمستوى الواحد والسّبعين بعد المائة، ويجد أن رفيقه العجوز تريماغاسي قد قيّده وأوثق قيده، ليخبره صراحة بأنه سيأكل منه ما يكفي حاجته وحسب، ثم يحرص على علاجه والعناية به حتى لا يتعفّن، ويحتفظ به "طازجا" إلى غاية اكتمال الشّهر، ذلك لأن المستوى الذي ألقى بهما الحظ إليه في الشهر الثاني، لا يصله أيّ طعام؛ هنالك يقف غورينغ على مفارقات الحياة بالسجن الذي اعتبره جنّة أول مرّة، فاختار ـ وفق القانون ـ أن يدخل معه رواية "دونكيشوت"، بينما حرص كثير من المساجين على إدخال السّيوف والخناجر..

وينجو غورينغ بأعجوبة حين تتدخّل ميهارو (أليكساندرا مازانكاي)، وهي سجينة تعوّدت على ركوب المنصّة والتّنقل بين مستويات "الحفرة" بحثا عن طفل لها، تدّعي أنه تائه بين الزّنزانات؛ فلا تسمع كلمة طيبة، ولا تجد إحسانا إلا من غورينغ الذي تقبّلها في شهره الأوّل بالمستوى الأعلى، ولهذا أنقذته من خنجر تريماغاسي، وواصلت رحلتها إلى عمق الحفرة..

وأيقن غورينغ بضرورة التّغيير، ولكنه لم يجد الوسيلة إلى تبليغ الإدارة بانشغاله، فهذه تنقل المساجين بين المستويات كل شهر بعد تنويمهم بالغاز، ولا يوجد أي سبيل يبلغ بسالكه مستوى المطبخ؛ أمّا المساجين، فأصحاب المستويات العليا منهم لا يسمعون، بينما ينشغل أصحاب المستويات السّفلى بإرضاء غريزة البقاءّ؛ وبين هؤلاء جميعا، آخرون لا وجوه لهم، يلقون بأنفسهم إلى عمق الحفرة حين تنفرط حبات الأمل، وتتقطع بهم أسباب البقاء.. ومع كلّ هذا، لا يفرّط صاحب دونكيشوت عن الدّعوة إلى إرساء نظام عادل لتوزيع الطّعام، بل يصرّ على تبليغ دعوته، ولا يكفّ عنها حتى حين تلقي به الأقدار إلى المستوى السادس الذي يتيح له شهرا كاملا من الرّفاهية، وهناك يقنع باهارات برؤيته، ويتفقان على حماية طعام المنصّة وتوزيعه بالعدل بداية من المستوى الواحد الخمسين، على أساس أن المستويات الأعلى نالت كفايتها من الأكل قبل ذلك..

ويكافح غورينغ وباهارات معا لأجل حماية المنصّة، وتضطرهم الظّروف إلى حرب شرسة ضد الجميع، ولكن جهودهما تذهب هباء، وحرصُهما على توزيع ما يسد الرّمق عند كل مستوى، لا يكون كافيا كي يبلغ المستوى الأدنى، لهذا يتّفقان على الاحتفاظ بتحلية يعيدانها مع المنصّة إلى المطبخ، لتكون رسالة مفادها أن المساجين اختاروا أن يردّوا "الباناكوتا" رغما عن الجوع القاتل، غير أنّهما لا يجدان بالمستويات الدّنيا مساجين أحياء، حتى إذا بلغا أدنى مستوى، وجدا طفلة في صحّة جيّدة، فقدما لها "الباناكوتا" لتأكلها بنهم شديد، وتنتهي رحلة غورينغ حين يتوفى رفيقه باهارات، ويرسل بالطّفلة إلى مستوى المطبخ، لتكون هي نفسها الرّسالة الموجهة إلى الإدارة، بحكم أن الإدارة ترفض استقبال الأطفال.

  • ما وراء السّرد..
لقطة من فيلم المنصة
لقطة من فيلم المنصة

واضح من البنية العامة لقصة "المنصّة" أنّها ديستوبيا (dystopie) صريحة، فقد اصطنعت مجتمعا خياليا في عالم مغلق لا يترك أيّ منفذ إلى شعاع من السّعادة؛ ويظهر هذا جليّا في اللّون الرّمادي الذي هيمن على الدّيكور، إضافة إلى الخطاب العدميّ الذي يصطنع المفارقات بشكل متواتر، ومثال ذلك أن غورينغ لا يتردّد في قتل تريماساغي بمجرد الإفلات من قيده؛ بل إنّ ميهارو التي أنقذته تطعمه لحم زميله، فيتقزز في البداية، ولكنّه لا يجد في الأخير سوى تناول لحم العجوز تريماساغي الذي أخبره من قبل بأنّ الحياة في السجن تقتضي أن "تأكل أو تؤكل"؛ وهذا ما يصطنع المفارقة، فقد كان تريماساغي يتحمل عبء الجريمة وحده، ولكن شبحه الذي أصبح لصيقا بغورينغ عاد ليلومه على الوحشيّة التي عامله بها، معتبرا أنه تعامل مع قاتله بـ"حضارة" حين أراد أن يأكله ويحرص على علاجه!!.

وتقدّم القصة نفسها ـ من جانب آخر ـ في شكل سخرية لاذعة بالسّلوك البشريّ من خلال اعتماد خطاب نيتشويّ صارم؛ ذلك أن نيتشه يتجاوز فريديريش اشليغل وسورين كيركغور في تحديد مفهوم السّخرية حين يقابل بين "سخريّة الضّعفاء" و"سخريّة الأقوياء"، ويشكّل منهما إجراءً مفارقا للمرور إلى شكل جديد من السّذاجة بفضل تجاوز العدميّة، وهذا ما يقتضي القبول السّاخر والسّاذج للعالم كما هو العالم.. ساخرا وساذجا في الوقت نفسه؛ لهذا، نجد غورينغ يتّهم النّظام العام لتوزيع الطّعام في البداية، ولكنّه لا يلبث إلا قليلا ثمّ يوجّه اتهامه إلى مساجين المستويات العليا الذين لا يعيرون أيّ انتباه إلى حاجة الآخرين للطّعام، وهذا يعني أن غورينغ تلبّس بالرّوح الدّونكيشوتي، فهو يبحث عن إرساء الفضيلة، ولكنّه لا يتعامل إلا مع أشباح القتلى الذين عرفهم، حتّى كأنه يجسّد ما يصفه نيتشه بأنه السّذاجة الواعية المطابقة لشكل أعلى من السّخرية، يفقد سلبيّته، ويتوجّه إلى عالم المستقبل الّذي ينبغي بناؤه.

ولا يكفّ مؤلفا "المنصّة" على إثارة القضايا التي تشغل البشرية عن واقعها المؤلم، ومن ذلك الرّوح العنصريّ المقيت الذي يجعل تريماغاسي يحتفي بالعثور على قارورة خمرة، معتبرا أنّها لم تكن لتصل إليه في المستوى السّابع والأربعين لو لم يكن كثير من المسلمين في مستويات أعلى منه، وهو ما لا يتحمّله "بطبيعة الحال" (كما هي الجملة التي يردّدها باستمرار)؛ أو ذلك السّجين الذي يحتقر غورينغ لأنّه يتعامل بلطف مع "باهارات" لمجرد كونه زنجيّا.

وتحمل "المنصّة" على مدار الفيلم صراع الطبقات في صور مبهرة للغاية، تنتهي بغورينغ إلى المستوى الأدنى، وهو المستوى 333 الذي يتجاوزه إلى مستوى الظلام الحالك أين يلتقي شبح تريماساغي ويرافقه إلى المجهول..

  • أسئلة عالقة..

وبناء على الرؤية النتشوية للسخريّة، يبقى المستقبل الذي يرمي إليه مؤلفا "المنصّة" رهينة للعمليّات التأويليّة، بل إنّ السّرد لا يترك سانحة ليفرض القراءة المعمّقة، فهو يقدّم الأحداث وفق رؤية غورينغ، ثم يلقي ـ من خلال الفلاش باك ـ ما يدفع إلى تفعيل أداوت التّأويل، فعمود السّرد ـ على سبيل المثال ـ يصل بطبق "الباناكوتا" إلى الفتاة الكامنة في المستوى الأدنى، في مقابل مشهد يجمع فيه رئيس الطباخين عماله وهو يحمل نفس الطبق ليبحث عمّن تهاون في عمله، وسمح بمرور شعرة إليه، ما جعل المساجين "المرفهين" يتقزّزون من الطّبق ويردّونه دون أن يلمسوه؛ فهل وجد غورينغ فعلا ابنة ميهارو، أم أنه استعار أوهام دونكيشوت منذ رافقه باهارات ليحقق صورة سانشو بانسا بامتياز، ويكمل رسالة المنصّة باستعادة سخرية سيرفانتيس، بل واستخدام المقولات الدّونكيشوتيّة عن مفارقات الثراء والفقر.. عن معنى الانسان..

بقي أن ننوّه بالجهد الذي بذله المسؤولون عن كاستينغ "المنصّة"، فقد وفّقوا أيّما توفيق حين راهنوا على إيفان ماساغي ليتولى دور غورينغ، ويلقي بصورة دونكيشوت إلى ذهن المتفرّج مع أول لقطة، فالشّبه بين الشّخصيّتين يبلغ درجة التّطابق؛ أمّا ديستوبيا "المنصّة"، فهي تطرح سؤال الوجود في ذاته، وتضع الانسان في مواجهة طبيعته المتأصّلة في ذاته؛ ولا نشكّ بأنّها ستثير كثيرا من الأسئلة، خاصة مع ما يعيش العالم من أزمات ربّما تفرض مراجعات عميقة لما تواضع عليه البشر فيما يجتمع اليوم من قيم تراهن على ما هو "انساني" تحت مسمّى "الحضارة الجديدة".