رواية السيرة الذاتية.. الخيال يمنحها صفة النص الأدبي

إلى أي مدى يمكن أن يذهب الروائي لسرد أحداث حقيقية حدثت له في حياته الشخصية ضمن أحداث روايته؟ وهل يستطيع الروائي العربي أن يتخلص من الضغوط الاجتماعية ليعبر عن وقائع حدثت له خلال حياته في رواية يقرأها آلاف الناس؟ وهل رواية السيرة الشخصية مقبولة في العالم العربي؟ وأين هي الحدود الفاصلة بين الرواية كفن وشكل أدبي مستقل، وبين كتابة السيرة الذاتية كشكل مستقل من الكتابة السردية؟


يعرف عدد من النقاد رواية السيرة الشخصية أو الذاتية بأنها شكل من أشكال السرد يقوم به شخص واقعي بالكشف عن سيرة حياته من خلال كتابة إبداعية تدور حول حياته الذاتية وتاريخ شخصيته ، وتفاعل هذه الشخصية مع شخصيات أخرى أو عوامل المجتمع الذي تعيش فيه.
ففي رواية السيرة الذاتية يقوم الراوي برواية أحداث حياته من خلال أسلوبية خاصة، ولا يشترط للراوي في هذه الحالة أن يعتمد على الضمير الأول (المتكلم)، بل قد يلجأ لاستخدام ضمائر أخرى لتخفيف حدة ضمير المتكلم وتجنب شعور القارئ بالانحياز، لكن بشرط أن لا يشعر القارئ وهو يتابع السرد في رواية السيرة الذاتية بتحولات مفاجئة بين ضمير المتكلم وضمائر أخرى، حتى لا يتحول النص السردي لسيرة “غيرية”، بدلا من السيرة الذاتية أو الشخصية للمؤلف.
وعلى الرغم من أن العلاقة بين الرواية بشكلها التقليدي المعروف وبين السيرة الذاتية ظلت محل جدل بين كثير من النقاد في حقل السرد الأدبي، إلا أنه في كل الأحوال فإن الروائي يظل متمثلا وحاضرا في شخوص عمله الروائي من خلال خبراته، وما يتعلق به من دوافع ذاتية حتى لو تمثلت نصوصه السردية في روايات أو أعمال سردية تدور حول سيرة “غيرية”، وليست سيرة ذاتية أو شخصية تعبر عنه هو نفسه.
لكن في نفس الوقت، فإن بعض النقاد يذهبون إلى أن الرواية حتى في شكلها التقليدي وبعيدا عن رواية السيرة الشخصية أو السيرة الذاتية فإنها في حقيقة الأمر هي شكل من أشكال السيرة الذاتية المجزأة التي يوزعها الروائي على عدد من رواياته أو أعماله السردية، ويقصد المؤلف من خلال توزيع خبراته الشخصية بهذا الشكل أن يتخلص من عبء الإلحاح الذاتي لنقل خبراته ومشاعره على الورق للقراء، وفي نفس الوقت حتى لا يقع المؤلف في حرج اجتماعي إذا باح بكل ما يتعلق بشخصه دفعة واحدة وفي عمل أدبي واحد، خاصة إذا تضمنت سيرته الذاتية ما قد يعرضه للانتقاد من جانب المجتمع.
وفي هذا السياق، فمن الضروري أن نأخذ في الحسبان أن هناك فوارق رئيسية على صعيد التفرقة بين السير الذاتية التي تكتب بغرض التأريخ وضبط الحقائق، وبين رواية السيرة الذاتية التي يقصد من خلالها المؤلف أن يضفي الصبغة الأدبية الخيالية على الوقائع والأحداث اليومية، حيث أن مزج الأحداث والوقائع اليومية بالخيال هو شرط أساسي من شروط إضفاء الصيغة الإبداعية والطابع الأدبي للسرد القائم على رواية السيرة الذاتية.

لقطات ذهنية

ومن ناحيته، يرى د. سلطان القحطاني، أستاذ الأدب في جامعة الملك سعود بالرياض، أن كل روائي أو قاص، وحتى عندما لا يكون في ذهنه أن يكتب رواية للسيرة الشخصية أو السيرة الذاتية، فإن عمله السردي يتضمن لقطات ذهنية من الحياة الشخصية للروائي أو القاص، وهي لقطات ذهنية يظهر آثارها في النص المكتوب حتى لو لم يقصد القاص أو الروائي أن يكون نصه السردي قائما على لقطات من حياته الشخصية.
لكن مع ذلك، فإن د. سلطان يحذر من الوقوع في فخ الدمج أو الخلط بين السيرة الذاتية كفن سردي قائم بذاته، بأن يقوم شخص ما بسرد سيرته الذاتية في شكل يكون أقرب ما يكون للعمل الأدبي، وبين الرواية بالشكل المتعارف عليه، معتبرا أنه من الخطأ الشائع حتى بالنسبة لبعض النقاد الخلط بين أدب السيرة الذاتية والرواية كشكل روائي مستقل ومتميز.
ويشير إلى فارق رئيسي بين الرواية التقليدية وبين رواية السيرة الذاتية، وهو أن الحدث في الرواية التقليدية قابل لأن يتفرع إلى أحداث أخرى وينقسم إلى عدة مشاهد، بينما الحدث في رواية السيرة الذاتية يقوم فقط على شخصية الراوي ويتمحور حولها، معتبرا أن الحدث في حالة رواية السيرة الذاتية قابل لأن يتطور ويتقدم للأمام أو حتى يرجع للخلف في حالة استخدام تقنية “الفلاش باك”، لكنه لا ينقسم ولا يتجزأ إلى عدة أحداث أو مشاهد أخرى بعيدة عن شخصية السارد.

البرتقالة والعقارب

الروائي المصري طلعت شاهين ،خاض غمار رواية السيرة من خلال روايته “البرتقالة والعقارب”، وحاول شاهين من خلال روايته فضح الواقع الطبي والاجتماعي في مصر من خلال رحلته مع مرض السرطان، مشيرا إلى أنه هو أحد أبطال حرب أكتوبر سنة 1973م ، لم يكن يتوقع أن يتعرض لمثل هذا التجاهل من جانب الدولة حتى في لحظات تعرضه لمرض خطير مثل مرض السرطان، وهي المرارة التي ظهرت من خلال صفحات الرواية على أكثر من صعيد، ومن خلال محطات السرد خلالها.
يقول شاهين عن هذه الرواية: “الرواية ما هي إلا سيرة ذاتية لي لرحلتي مع مرض السرطان منذ البداية حتى الشفاء، ولكنني أردت أن يشاركني فيها العالم، أنا شاركت في حرب أكتوبر ولم أكن أتوقع عندما عرفت بإصابتي بالسرطان إنني سأكون رقما بالنسبة للأطباء والدولة”.
ويضيف: “رحلتي مع العلاج كانت رحلة كل مصري في المستشفيات الحكومية والخاصة يحاول أن يبحث فيها عن حقوقه كمواطن ولكن دون جدوى، الأمر الذي دفعني في نهاية المطاف أن أطلب الشفاء من أرض العلم والرحمة في أوروبا وبالتحديد في إسبانيا”.

حكايتي شرح يطول

في عملها السردي “حكايتي شرح يطول” قدمت الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ سيرة حياة والدتها كاملة التي روتها لحنان لتُقدمها حنان بدورها للقراء لأن والدتها لم تكن تعرف الكتابة. تقول كاملة في نهاية قصتها: “ها هي حكايتي كتَبَتها لي ابنتي حنان.. حتى إذا رويتُها لها توقّفتُ عن لوم نفسي. كنّا نجلس معا من غير آلة تسجيل، تخطّ في دفاترها الصغيرة التي تُشبه المفكّرات التي ألصقتُ عليها الصوَر.”
تصف حنان في سيرة والدتها، صراع المرأة مع التقاليد الإجتماعية والأعراف الجائرة، تحكي عن الفقر في جنوب لبنان وما عانته الأم وشقيقها على أثر هجْر الوالد لهم وزواجه من أخرى والتنكّر لحقوقهم ممّا دفعهم للأعمال الصعبة ومن ثم الانتقال إلى بيروت للعيش هناك في كنف الأبناء من الزوج الأول.
وتصف حنان الشيخ معاناة أمها كاملة في بيروت حيث الأوضاع الاقتصادية لم تكن أفضل. وكانت نقطة التحوّل الأولى في حياة كاملة عندما عقدوا قرانها وهي في الثانية عشر من عمرها على زوج شقيقتها التي توفيت وهو شيخ في الأربعين.
يمكن اعتبار “حكايتي شرح يطول” من ضمن أكثر نصوص السيرة التي كتبتها المرأة، خاصة وأن المؤلفة لم تنكر أن هذا النص ينتمي إلى حقل السيرة الذاتية.