مبدعون عرب يرفعون شعار “الطفل داخل كل مبدع”

مرحلة الطفولة هي الصفحات البيضاء البريئة في حياة كل إنسان، فالطفل الصغير لا يخجل من أن يعلن عن خوفه أو جوعه أو حتى حبه للآخرين أو كرهه لهم، وفي هذه المرحلة المبكرة يختزن الإنسان أهم الصور في ذاكرته، ويؤثر فيه كل ما يراه ويتعرض له من مواقف إنسانية سعيدة أو حزينة، ومن المبدعين من حول هذه المرحلة في حياته لكنز ينهل منه لكتابات وصور من الإبداع ينقلها للآخرين.


وتتنوع تجارب الطفولة باختلاف مرجعية الكاتب ونشأته، حيث تتراوح بين طفولة شقية وأخرى معذبة، أو تحمل قدرا من البراءة الفائتة، ليكون الحنين أو البحث عن مصدر للإلهام، هو المنتج لنصوص تحتفي بالطفولة، أو يأتي عبر سياقات قد لا يكون فيها “المتن” هو المسيطر على المشهد، ولكن في خانة “الهامش” المؤثر والمهم على سيرة حياة الأبطال في الشخصيات التي يخلقها المبدع على الورق، بل وتستمر هذه التأثيرات على الشخصية طوال العمل الأدبي، بل إن بعض المبدعين العرب اعتبر أن الطفل هو سيد السرد والبطل الحقيقي في كل رواية.

وعلى سبيل المثال، في الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ “بين القصرين” يمكن تتبع نمو الطفل “كمال عبدالجواد” الذي نشأ في أحضان الحي الشعبي بالقاهرة “الجمالية”، وينتمي لأسرة متوسطة، ويراقب ويرصد التحولات التاريخية والاجتماعية، ويكبر عبدالجواد في أحضان أسرته التي يتمسك فيها رب الأسرة بالمثل والتقاليد في حياته الأسرية، بينما يتخفف من كل هذه التقاليد في سهراته وحياته الشخصية، وعلى امتداد الثلاثية في باقي أجزائها، “قصر الشوق” و”السكرية”، يكبر الطفل كمال عبدالجواد، ويختزن داخل ذاكرته الطفولية القوية كل ما يمر به من مواقف ومشاهد، وعندما يكبر ويصبح على أعتاب الجامعة يتجه بقوة إلى دراسة الفلسفة والكتابة الأدبية، لنلمح هذا التماس بين شخصية الكاتب نفسه نجيب محفوظ، وبين بطله كمال في الكثير من الملامح والميول، بل وفي بعض الأفكار.

وإذا كانت نماذج طفل “المدينة” قد تخللت أعمال نجيب محفوظ، فإن كاتبا آخر هو عبدالحكيم قاسم، قد رصد نماذج مغايرة من القرية المصرية، وهو ما تجلى في العديد من أعماله مثل روايته “أيام الإنسان السبعة”، ففي هذه الرواية اختار عبدالحكيم أن يكون الراوي صبيا صغيرا يرصد ما حوله من مجريات وأحداث، وينقلها للقارئ ببراءة طفل صغير لا يحترف الكذب، بل ينقل ما يراه بكل صدق وشفافية.

والراحل عبدالحكيم قاسم هو بالطبع أحد المتورطين في هذه الأحداث، وهو يعبر من خلال رؤية الطفل عن رغبته الدفينة التي قد لا يتعرض الراوي للانتقاد بسبب طفولته، حيث يستغل الكاتب قناع الطفولة ليعبر عما تتنازع أهواؤه به بين الامتثال والتمرد على التقاليد والقيم البالية للمجتمع، الذي يراه بعين طفل صغير بريء يحكم على الأشياء من حوله بمقياس الفطرة الطفولية النقية.

طفل القرية

القاص سعيد الكفراوي، مثال على مبدع عربي انطلق من القرية ليثبت أن مرجعيته الريفية وهو طفل صغير هي كنز أصيل للحكايات المثيرة للدهشة، وعالم حافل بالأساطير والخرافات، التي تتقاطع مع حركة الزمن على فضاء يحتشد بالعلاقات والغرائب، ولذلك لم تفارق “عينا الطفل” كتابات الكفراوي، لنلمح تجلياتها في مجموعاته القصصية “مدينة الموت الجميل” و”سدرة المنتهى” و”ستر العورة” و”مجرى العيون”.

وأنتج الكفراوي شخصية “عبدالمولى”، هذا الطفل الذي يتماس في بعض موضوعاته السردية مع حياة الكاتب، والذي ينتقل من قصة إلى أخرى، وكأنه يرفض مغادرة النص أو شرط الإبداع الملازم للكاتب، ليعلن عن حضوره كبطل، أو يتخفى وراء المناوشات التي تزعج الكبار، هذا التمرد النابه الذي اختلط وعيه بوعي الكاتب، لأنهما في الأساس حالة واحدة ومندمجة لا تقبل الانشطار.

الروائي العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي، يؤكد إنه دائما يحتاج إلى فترة التأمل والحنين إلى الماضي، ليس هوسا به، ولكنه مادة للكشف عن الذات والمناطق المتشابكة بين الذات والواقع، معتبرا أن العودة للطفولة هي لحظة للمكاشفة يستفيد بها المبدع وينقلها على الورق.

ويعتبر عبدالرحمن أن استعادة المبدع لمرحلة الطفولة تعبر عن شكل من أشكال الشعور بالشجن، وهذا لا يأتي من منطقة الماضي كمنطقة زمنية يستعيد الكاتب ما يرتبط بها من صور أو ذكريات، ولكن من طبيعة الحدث نفسه، كالموت الذي يولد حالة الشعور بالافتقار، معتبرا أن فترة الطفولة قد تكون لحظة قريبة في هذه الظروف النفسية التي قد يمر بها المبدع، الذي يشعر بالحنين إلى فترة طفولته ليواجه به ما يتعرض له من وحشة وخوف، وهو يرى من حوله يتساقط في بئر الموت.

أما الروائي والناقد محمد قطب، فيشير إلى أن الطفولة مرحلة ممتدة مع الإنسان في كل مراحله العمرية وحتى الكهولة، وتنعكس على سلوكه وفكره وحياته، فإذا كانت طفولة متوهجة فهي تثري وجدانه وتضيف إليه فتحوله إلى مبداع وتنعكس في إبداعه، وإذا كانت طفولة شقية وتعيسة، فإن هذا يطفي على الإبداع نوعا من الشجن والحزن يتضح بشكل جلي في الأعمال الأدبية للمبدع، موضحاً أن الطفولة هي مرحلة البراءة التي لايمكن فصلها عن حياة الإنسان، بحيث إذا كانت سوية تنتج إنسان سوي، وإذا كانت مختلة تنتج إنسان مضطرب، لافتاً إلى أن المبدع يستغل ذلك الطفل بداخله ليزيد إبداعه ويثري مواقفه الأدبية، فتساؤلات الطفل هي التي تفتح أفاقا للإبدع والتحليق بعيداً بالعقل والتخيل، فيسبح المبدع في بحرا من المعرفة والعلم لينهل منه الكثير.

الطفل داخل المبدع

الروائية والناقدة د.لنا عبد الرحمن تقول : في أعماق كل منا ثمة احتياج ملح لأحلام الطفولة، حتى وإن شاخت الملامح ووهن العظم ، وكلما استرجعنا هذا الحلم الطفولي، الذي ربما يكون محدودا نستعيد شجاعتنا وقدرتنا على ممارسة الحياة بقدر من الارادة المانحة لرغبة الاستمرار، بعيدا عن ثقل الواقع المعاش.

إن كثيرا من إبداعنا يرتبط بحالة من اللهو يصح إعادتها لمرحلة الطفولة، حيث لا اكتراث بالنتائج..حين نكتب بحرية من دون انتظار للنتيجة نكون كالطفل الذي يلهو بالرمل لا ينتظر من لهوه إلا متعة اللعب. من هنا يبدو أن خبرات هذا الطفل التي اكتسبها وهو يكبر، والصور التي انطبعت في مخيلته عن أشياء معينة،لم تزل تماما منا؛خاصة وأن كثيرا من المبدعين الكبار عاشوا مرحلة تاريخية كانت فيها مساحة أكبر للخيال والتخيل، على عكس حياتنا الآن، والتي نرى الواقع فيها يفوق الخيال، ويفرض على المبدعين والمثقفين حالة من الخوف تجعل الكثيرين يستنجدون بالماضي والطفولة البعيدة، هربا من حالة “اللامعقول” التي تسيطر على الواقع العربي الحالي.

شخصية المبدع

الطفولة جزء لايتجزء من شخصية المبدع، كما ترى الكاتبة والروائية مي خالد ، والتي تؤكد أن مرحلة الطفولة هي التي تشكل الشخصية المبدعة، بكل ما فيها من أحداث اجتماعية وحياتية تثير الكثير من التساؤلات داخل عقلية الإنسان، مايثري وجدانه، ويبلور شخصيته، مؤكدة أن المبدع لايستطيع التخلي عن الطفل بداخله، فالطفل يمثل الانداهش، الذي يساوي الإبداع، ولو فقد المبدع الاندهاش فسيفقد قدرته على الابداع، ومن ثم فإن التخلي عن الطفولة بخصائصها المختلفه تعني تخلي عن الإبداع والخيالات المتعددة في ظل واقع متغير يصعب معه الابداع.

وتؤكد مي خالد أن الطفولة مثلت لها الكثير فهي الوعاء الذي تنهل منه ابداعها فلاينضب، مع ما مرت به من تجارب واحتكاكات اجتماعية مع محيطها الأسري، والأصدقاء، حيث كانت تجالس الكبار وتستمع إلى أحاديثهم والتي قد لاتستوعب منها الكثير، مايدفعها إلى التساؤل والتفكير والابتعاد بخيالها إلى سيناريوهات متعددة جعلتها أكثر من مجرد طفلة، وهو مابقي معها حتى أصبح مصدر الإبداع لديها، مؤكدة أن طفولتها هي ماتشعر معه بالأمان والطمائنينة.

ومن جانبه يقول الشاعر سيد حجاب: الطفل بداخل المبدع هو الوجود، حيث يمثل قدرته على الاتصال الوجداني بالماضي والتجارب الحياتية المختلفة، والتي تخلق لديه خيالاً متسعاً، يمده بالأفكار المبدعه، فكلما نبض عقل الشاعر، يعود ليبحث بداخله، ليجد تلك المرحلة الطفولية الثرية بالكثير من منباع الإبداع، فيأخذ منها ما يحتاجه ليعود به ويحوله إلى إبداع، فالطفل يمثل الأصل والفكر للمبدع والذي يرتبط به على الرغم من اختلاف المراحل العمرية، موضحا أن مرحلة الطفولة هي التي تقوم الأداء الإبداعي، فمنها يستمد استقامته وبرائته، ويتخلص من كافة القيود المادية والواقعية، لينطلق بحرية في براءة الطفولة.

ومن وجهة نظر حجاب، أن تلك المرحلة تعد الأساس لصناعة المبدع وثقل ومصدر إبداعه، مؤكدا أن الأعمال الأدبية تكون انعكاسا لطفولة المبدع وكيف كانت وتطورها معه.