مسجد ابن يوسف.. أصالة العمارة المغربية

يُعدّ مسجد علي بن يوسف من أهم المواقع التاريخية بمدينة مراكش، كما أنه من أشهر مدارس المغرب التي يعود تاريخ بنائها إلى عام 525هـ على يد أمير المسلمين في ذلك الوقت يوسف بن تاشفين، واستكمل ابنه علي بن يوسف بناءها وتجديدها وتحويلها إلى مسجد، على مساحة تبلغ 5000 متر مربع، وجاءت فكرة إنشاء المدرسة والمسجد من تكاثر عدد طلاب العلم في مراكش الذين أرادوا تحصيل العلوم المختلفة، وكانت بداية المسجد عبارة عن غرفة صغيرة يجتمع داخلها الطلاب ويتلقون العلم من كبار الفقهاء، وبعد الانتهاء من جلساتهم كانوا يقيمون بها الصلوات الخمس، ومن ثم أصبح هذا المكان يؤدي وظيفتي العبادة والتعليم، لذلك كان يطلق الجميع في مراكش على هذه المساحة اسم المدرسة والجامع.


وأصبح يطلق على هذا المكان بعد ذلك اسم “السقاية”، حيث قام أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ببناء سقاية بجوار الجامع، وكان يترأس حلقات العلم بالمسجد فقيه يُدعى “محمد المهدي بن تومرت” زعيم الموحّدين، لمواجهة فقهاء المرابطين بمراكش، والذي كان ينوب عن يوسف بن تاشفين وجميع فقهاء المغرب، وهكذا ظلت الحرب العلمية بين الموحّدين والمرابطين تُقام بمسجد أمير المسلمين، حتى أصبح ينافس جميع المساجد والجامعات العلمية في الشرق العربي مثل الجامع الأزهر بمصر.

واكتظت ساحات وردهات مسجد بن يوسف منذ ذلك الحين بحلقات الدروس، التي كان يجلس فيها كبار العلماء من مختلف المجالات، مثل تفسير القرآن، والفقه الإسلامي، والحديث، والسيرة النبوية، كما درس طلاب مراكش في مدرسة يوسف بن تاشفين، ما يتعلق بالطب والرياضيات والفلسفة على يد العلامة أبي الوليد بن رشد أحد فقهاء العصر.

وتخرّج في مدرسة يوسف بن تاشفين بعض علماء الأدب العربي والتاريخ والجغرافيا، الذين أصبحوا من أفضل المستشارين الكبار في الدولة والمرتبطين ارتباطاً قوياً برئيس الدولة في ذلك الوقت. ولكن في عهد علي بن يوسف أصبح مدرسو المسجد لا يمكن لهم التدخّل في شؤون الدولة حفاظاً على مكانتهم لدى طلابهم، ورفضاً لعملية الخلط بين التعليم والسياسة.

واشتهر جامع علي بن يوسف بأنه أعظم مراكز الثقافة الدينية والفقه الإسلامي، وأصبح مصدراً للبحوث في مجالات البلاغة والحكمة وأصول الدين، حيث شجّع ملوك الموحّدين علماء الأندلس من مختلف العواصم، مثل قرطبة وإشبيلية وغرناطة على الهجرة إلى مراكش، ليقوموا بالتدريس في جامع علي بن يوسف، بالإضافة إلى علماء المغرب الذين أتوا من مدن متعدّدة مثل سبتة وفاس وسلا.

وقضى علي بن يوسف بهؤلاء العلماء على الكثير من الفرق السياسية والدينية المتطرّفة، لا سيما الخوارج والمعتزلة الذين كانوا منتشرين في معظم المدن المغربية، مثل مدينة طنجة وأقاليم الشمال، كما قضى على فرق الزندقة من قبائل برغواطة بمدينة سلا وآسفي، وبهذا استطاع ملوك الموحّدين نشر آرائهم المؤيدة للمذهب الشيعي المعتدل، باستخدام فقهاء مدرسة بن يوسف تاشفين ولكن بطريقة غير مباشرة عبر دروس التاريخ الإسلامي، خاصة تاريخ الإمام علي بن أبي طالب والحرب التي دارت بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، وبالرغم من ذلك إلا أنهم بعد وفاة الزعيم الشيعي محمد المهدي بن تومرت، والقضاء على الأفكار المتطرّفة التي قام بنشرها بين جنوده وأنصاره من فرقته رقم 70، قاموا بإرجاع الأمور إلى نصابها الصحيح، والتنصّل من المذهب الشيعي، والعودة إلى المذاهب السنية.

وتميّز جامع بن يوسف منذ ذلك الحين في المغرب والأندلس وأفريقيا بقدرته على تغيير الأوضاع الدينية والسياسية الخاطئة باستخدام طلابه، بالإضافة إلى أن هجرة العلماء والفقهاء بين المغرب والأندلس أصبحت أكثر تداولاً، حيث كان المغاربة يهاجرون إلى الأندلس لتلقي العلم، ثم يعودون للتدريس في جامع بن يوسف.

واستخدم في بناء المسجد مختلف مواد البناء والزخارف، حتى أصبح تحفة معمارية تؤرخ للفن المغربي، فقد استعمل خشب الأرز الذي جلب من جبال الأطلس في بناء قبة المسجد، بالإضافة إلى قبة الدهليز التي تميّز الجامع عن غيره بفخامتها ورقيها، كما استعمل خشب الأرز في سقف قاعة الصلاة، التي تُعدّ من أكثر المواقع اتساعاً بالمسجد نظراً لكثرة عدد المتردّدين عليها، وكذلك الممرات والأفاريز.

ويحتوي المسجد على قاعة صلاة يتصدرها باب ضخم يجاوره عمودان منقوشان، أحدهما جنوبي والآخر شمالي من الرخام الإيطالي، فضلاً عن 4 أعمدة أخرى تتصدر قاعتي المحراب والوضوء، وقد استخدم الجبس أيضاً لتزيين هذه القاعات وعمل لوحات كبيرة منقوشة بأشكال متعدّدة، وُضعت على واجهات فناء المسجد وقاعة الصلاة.

ويمتاز مسجد بن يوسف باستخدام الزليج أسفل الجدران والأعمدة، بألوان متعدّدة وأشكال هندسية وتقنية مختلفة، أما أرضيته فرصعت بالرخام الإيطالي، لا سيما أرضية صحن المسجد والغرف المجاورة، التي تحيط بها صحون صغيرة ومجموعة من الممرات والأدراج.

ويوضح د. سامح الزيني، الخبير الأثري، أن المسجد يحتوي على قبة من الجبس الذي يحمل نقوشاً بألوان مختلفة، يتم الوصول إليها من خلال سلم خشبي يجاوره ممر مغطى بسقف مزود بمجموعة من الفتحات التي تضيء المكان، ويربط هذا الممر بين المدرسة والمسجد، وفي نهايته دهليز يؤدي إلى مختلف أنحاء المسجد.

ويقول: توجد في الجهة الوسطى من الناحية الشمالية للمسجد ثلاث غرف بجوار بيت الصلاة، يفصل بينهم صفان من الأعمدة الرخامية، وكانت هذه الغرف تُستخدم سابقاً مكاتب لنزلاء المدرسة من طلبة العلم والفقهاء.

ويؤكد أن باقي حجرات المدرسة التي كان يستخدمها الفقهاء، توجد في الطابق العلوي الذي يؤدي إليه درج تقليدي، بالإضافة إلى ممرين يحيطان بساحة مركزية يؤديان إلى 7 صحون صغيرة توجد بها الحجرات الخاصة بالطلبة.