طرائف “القراءة”.. حينما ينزلق “الفهم”..تولد النكتة..

تحتفظ النصوص في دواخلها بأدوات تمنحها القوة كي تتصدى للقراءات الخاطئة، ولكن مجهود القراءة قد يفوّت على نفسه القدرة على الانخراط في عالم النصّ، فينتج منه ما يشبه النكتة، وفي هذه السطور نماذج عن انزلاق المعنى..

 كتب: محمد كاديك

لنتصور معا شخصا في أسمال بالية، أشعث أغبر، أصاب الزمن وجهه بطبقات من الغبار تراكمت حتى تدخلت في تشكيل قسماته، وهو متكئ إلى نخلة يلهث من شدّة ما أصابه من التعب، فقد جرى أكثر من عشرين ميلا هربا من جند قبيلة أغار عليها.. فلما التقط أنفاسه، وهدأ روعه، ابتسم ابتسامة منتصر لأنه تمكن من المرور على كلّ خطوط الدفاع بالقبيلة، فاستولى على قطيع من الغنم وسار إلى حاله، ثم سجل للتاريخ ما تناقله الرواة حين قال[1]:

               نَجَوتُ مِنها نَجائي مِن بَجيلَةَ إِذ          أَلقَيتُ لَيلَةَ خَبـتِ الرَهطِ أَرواقِ

               لَيلَةَ صاحوا وَأَغرَوا بي سِراعَهُمُ           بِالعَيكَتَينِ لَدى مَعـدى اِبنِ بَرّاقِ

               كَأَنَّما حَثحَثــوا حُصّاً قَوادِمُه           أَو أُمَّ خِشـفٍ بِذي شَثٍّ وَطُبّاقِ

             لا شَيءَ أَسرَعُ مِنّي لَيسَ ذا عُذَرٍ          وَذا جَنـاحٍ بِجَنـبِ الرَيدِ خَفّاقِ

               حَتّى نَجَوتُ وَلَمّا يَنزِعوا سَلَبي             بِوالِهٍ مِن قَبيضِ الشَـدِّ غَيـداقِ

كاريكاتير محمد عبد اللطيف
كاريكاتير محمد عبد اللطيف

ولم يكن صاحبنا يعلم بأن الزمان سيأتي بمن يحفظ كلامه، ويختصّه بالدراسة والبحث، ويحرص على إخراجه في مجلدات أنيقة، كما لم يكن يعلم بأن التاريخ سيأتي (وهو الذي لم يكن يدرك البتة كنه التاريخ) بالجرجاني وابن قتيبة وابن سلام، ولا حتى دي سوسير وياوس وغادامير وغيرهم ممن أعملوا الفكر في الكلام وطبقاته، فأسسوا وأصّلوا ووضعوا المناهج وشرّحوا دقائق المفاهيم، ولم يكن صاحبنا ليدرك "أفق انتظار" ولا "قارئا ضمنيا" ولا غيره من القراء، كما لم يعرف شيئا عن الهرمينوطيقا وأنظمة اللغة، وإنما قال ما قال احتفاء بنصره، وتحدث على سجيّته كما علّمته بيئته، بعيدا عن كل ما جاء به علم البيان من مجاز واستعارات وتشبيهات.

ونعترف بأننا لم نتخيّر أبيات تأبط شرّا بقصد معين، وكان في متناولنا أن نأتي بالشنفرى أو امرئ القيس أو أي شاعر جاهلي آخر، فقد قدمنا الأبيات عرضا لنقترب من واقع يتجاهله كثير من النقاد العرب، ويصرّون على إلغائه، وهو أن العمل الفني لا يأتي وفقا لاستراتيجية واضحة أو تخطيط مسبق، كما توحي به بعض الدراسات النقدية الحديثة، وإنما هو "لحظة فنية"، وهي التي يسميها زكي نجيب محمود "اللحظة المسحورة"، ويرى أن الفنان «يلقطها من مجرى الزمن، فيخطها على الورق لفظا ورسما، أو يثبتها على الحجر نقشا ونحتا.. فذلك هو الفن بأدقّ معناه» ويرى الفن الأصيل بأنه «إثبات حالة من حالات الوجود بتفصيلاتها التي تجعلها فردا فريدا بين سائر الحالات بحيث تعرف كيف تتخيّر لها من تفصيلاتها ما يخلع عليها بين سائر أخواتها ذلك التفرّد الذي لا يشاركها فيه شريك آخر على امتداد الزمن واتساع الكون وتعدد الكائنات»[2].

واللحظة الفنية هنا تتجاوز مقتضيات الدّقة العلمية وآليات الموضوعية، كما تتعالى على معايير النقد وقوانين التأويل، ومع ذلك، فإن كلام تأبط شرّا يمكن أن يصبح دليلا حيّا على أن العرب عرفت مفهوم "الانسيابية" (Aérodynamisme) قبل أن تكتشف أوروبا البخار، ولن يكون ذلك عسيرا إذا قيّضت له تصاريف الأقدار دارسا يستخرج من بين "ذي عذر" و"ذي جناح" في البيت الشعري، ما يعتبره دلالة على تمكّن الصعاليك من "الفيزياء" الحديثة.

ولعل هناك من يرى بأننا نغالي فيما ذهبنا إليه، ولكن القراءات التي تزخر بها المكتبة العربية تؤكد بأن المخيّلة لم تسعفنا في الإتيان بما هو في عشر الجودة مما تفتقت عنه قرائح كثير من المتأوّلين، كمثل ما تأوّل به الدكتور محمد عمارة كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، فقدمه مرة على أن «صاحبه حادّ البصيرة في رؤية اتجاه حركة التطوّر والتاريخ» ثم دالت به الأيام، واضطر إلى تكييف موقفه من قيمة الكتاب، فوجده «يخدم أهداف الاستعمار الغربي في محاولته للقضاء على "الخلافة" سعيا إلى علمنة المجتمعات الإسلامية»[3].

ومن أمثلة ذلك قول أسد بن جاني في "بخلاء" الجاحظ: «أما واحدة فإني عندهم مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبّب، لا بل قبل أن أخلق، أن المسلمين لا يفلحون في الطب»[4]، فتصدى له محقّق الكتاب الشيخ محمد سويد بحاشية قال فيها: «قوله إن المسلمين لا يفلحون في الطب، قول كذّبه التاريخ، فابن سينا والرازي والخوارزمي وغيرهم من أطباء المسلمين هم أساتذة العالم في الطب»[5]، وظاهر أن فهم المحقق قصر عن غاية ابن جاني رغم وضوحها، فالقوم هم الذين يعتقدون أن المسلمين لا يفلحون في الطب، ومادام ابن جاني مسلما فإنهم لا يثقون به ويرغبون عن عيادته، ولذلك أكسد في سنة وبئة، وكان ينبغي للمحقق أن يتسمّع إلى نبرة السخرية في كلام ابن جاني، فيرى حالة اجتماعية بغيضة يرفضها الطبيب المسلم ويأسى لها، بأعظم من الأسى الذي حرّك الحميّة في قلب الشيخ سويد، فأرهق "التاريخ" باستدعائه إلى تكذيب ابن جاني، ثم نقل الحديث إلى موضوع لا يمتّ للسياق بصلة، رغما عن سياق القصة الذي لا يترك أي "فراغ" ليتسلل منه سوء الفهم.

وما دامت القراءة نشاط فكري/لغوي مولّد للتباين، منتج للاختلاف، كما يقول علي حرب[6]، فإننا ينبغي أن نلتمس العذر لكل قارئ فيما يذهب إليه رأيُه، فيعيد إنتاج المقروء بمعنى من المعاني، لتصبح قراءته احتمالا من بين احتمالات النص، فكل قراءة «إنما تتم دائما داخل أمة، وتقاليد أمة من داخل تيار فكري حي»[7]، ولكن هذا لا يعني أن النص يرفع أشرعته كي تهبّ فيها الرياح، ويسير رخاء حيث يشتهي القراء، لأن الأمر ـ في هذه الحال ـ يستحيل عبثا، لا نرى مطلقا  أن ابن جاني صاحب الجاحظ يقبله..


هوامش:

[1] ـ الأبيات لتأبط شرّا في "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني وهي من قصيدة مطلعها:

                 يا عيدُ ما لَكَ مِن شَوقٍ وَإيراقِ       وَمَرِّ طَيفٍ عَلى الأَهوالِ طَرّاقِ

[2] ـ انظر زكي نجيب محمود قشور ولباب ـ دار الشروق ـ ط الثانية 1988.

[3] ـ راجع وقائع القضية مفصلة في مقدمة الدكتور نصر حامد أبو زيد لكتاب "الخلافة وسلطة الأمة"، تر عن التركية عبد الغني سنى بك ـ دار النهر للنشر والتوزيع ـ الطبعة الثانية 1995.

[4]  ـ روى الجاحظ في "البخلاء" أن « أسد بن جاني كان طبيباً فأكسد مرة، فقال له قائل: السنة وبئة، والأمراض فاشية، وأنت عالم، ولك صبر وخدمة، ولك بيان ومعرفة. فمن أين تؤتى في هذا الكساد؟ قال: أما واحدة فإني عندهم مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبب، لا بل قبل أن أخلق، أن المسلمين لا يفلحون في الطب، واسمي أسد، وكان ينبغي أن يكون اسمي صليباً، وجبرائيل، ويوحنا، وبيرا، وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى، وأبو زكريا، وأبو إبراهيم. وعليّ رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون رداء حرير أسود، ولفظي لفظ عربي، وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جندي سابور.».

[5]  ـ راجع "البخلاء" لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ـ تحقيق الشيخ محمد سويد ـ دار إحياء العلوم ـ الطبعة  الأولى ـ 1988.

[6]  ـ علي حرب، نقد الحقيقة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1993.

[7]  ـ بول ريكور، صراع التأويلات، ترجمة منذر العياشي، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2005.

ملحوظة: تخيرنا كاريكاتير محمد عبد اللطيف، وصغنا تعليقه بالعامية الجزائرية بما يفي حق تعليق الفنان، ويوافق غايتنا منه في المقال