ابن رشد..منحة المحنة..

كتب: محمد كاديك

الأفكار لها أجنحة
الأفكار لها أجنحة

يعطي أبو الوليد بن رشد دفقا متميّزا لمسار الفلسفة العربيّة، ويصحّح مسارها في لحظة فارقة من التاريخ بعد أن انفصل بوعي ومسؤولية عن أقاويل المتكلّمين كما يصفه الجابري؛ فقد تجنّب الانخراط في الإشكاليات “الكلامية” التي لم تكن تمتّ بصلة إلى الفلسفة، وهي الإشكاليات التي ما تزال إلى يومنا هذا تقدّم نفسها في صورة “عقلانية مكتملة” عبر كتابات عدد من المفكرين المرموقين من أمثال محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهما..

أقول، إن ابن رشد يمثل لحظة فارقة في التّاريخ المعرفي العربي الإسلامي وقدّم أعمالا غاية في الأهميّة استهدف بها الإصلاح الديني الفلسفي والعلمي في آن واحد؛ فهو في “فصل المقال” يؤسس لرؤية مختلفة عن الخطاب الأيديولوجي الذي كرّسته المنظومة المعرفية للدولة العباسية في شكل “فلسفة”، ويضع حدّا نهائيا للخلط بين “الحجاج اللغوي” الذي لا يخلو من خلفية أيديولجية، ولا يقصد إلى “الحقيقة” بالضرورة، وبين فعل “التفكير” و”التفلسف” بما هو بحث عن حقيقة تستند إلى برهان عقلي، ومن هنا أسّس لمنهج واضح للنّظر الفلسفي وعلوم المنطق من المنظور الإسلامي، وفصلهما ـ بصفة نهائية ـ عن “علم الكلام”، ولقد أمكن له ذلك من خلال سؤال مركزيّ حول العلاقة بين “الحكمة” و”الشّريعة”، انتهى به إلى القول إن “الشّرع أوجب النّظر بالعقل في الموجودات”، وواضح أن ابن رشد اضطر إلى معالجة قضايا “تاريخية” لم يكن ينبغي أن تطرح على مستوى فلسفي، كمثل قضية الإفادة من “التّراكم المعرفي الانساني” التي يفترض أنها تحصيل حاصل، ومع ذلك فقد ضبط ابن رشد الإفادة بمعارف القدماء، واشترط فيمن يتصدّى لها “ذكاء الفطرة، والعدالة الشّرعيّة، والفضيلة العلميّة والخلقيّة”.

يمثل ابن رشد، إذن، لحظة التجديد للمسار الفلسفي الانساني من خلال قراءته لأرسطو، وإضفاء روح انساني أكثر شمولا لما توصلت إليه الانسانية في القرن الحادي عشر الميلادي، بل إنه يمثل طفرة حقيقية من خلال الأفكار التي استحدثها على مستوى البنى المفاهيمية لـ”الدولة” و”الاقتصاد” والعلاقات الاجتماعية عامة؛ وإذا كان هناك من يراه متجاوزا، بما أنه يمثل الفكر القروسطي، فإن هذا لا ينفي عنه فضل السبق، ويبقى مفيدا جدا للضفة العربية التي تحتاج إلى إعادة صياغة/قراءة، وتحتاج إلى تأصيل جديد لمفهوم “الثقافة العربية” في ذاته، لأن هذا المفهوم في واقع الحال، يكرّر انتاج نفس النظم المتجاوزة، بدليل “عصر النهضة” الذي لم ينتج سوى ثنائيات متضادّة لم تحقق نهضة فعلية.

بقي القول إن محنة ابن رشد، هي محنة واقع الفلسفة في العالم العربي اليوم، ويكفي أننا لم نتلق كتب ابن رشد إلا مترجمة عن اللاتينية، مع أنها كتبت في الأصل بالعربية، وهذه مفارقة تاريخية نعيش أطوارها في محنة متواصلة، هي أشبه بمحنة ابن رشد.