“التأويل” كما رآه الغزالي..

لخص أبو حامد الغزالي قانون التأويل في ثلاث وصايا، عبّر عن أولاها بـ«عدم الطمع فيما لا يتبيّن فيه وجه التأويل أصلا» مثل الحروف المذكورة في فواتح السور طالما لم يصحّ فيها معنى بالنقل

 كتب: محمد كاديك

وعلّل الغزالي ذلك بقصور المؤوّل في المعقول وتباعده عن معرفة المجالات النظرية، حتى أنه قد «يرى ما لا يعرف استحالته ممكنا»، أو «لقصوره عن مطالعة الأخبار ليجتمع له من مفرداتها ما يكثر مباينتها للمعقول»[1]، واختار الغزالي في وصيته الأولى السبيل الأسلم للمؤوّل، بالاعتراف أن علم الإنسان سيظل قاصرا مهما سمقت مرتبته مصداقا لقوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)[2]، لذلك فإن «العالم الذي يدّعي الاطلاع على مراد النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ذلك فدعواه لقصور عقله لا لوفوره»[3].

أما الوصيّة الثانية، فهي أن لا يُقبل المؤوّل على تكذيب برهان العقل، فإن العقل لا يكذب ـ يقول الغزالي ـ وبيان ذلك أن « العقل مزكى الشرع» لأن الشرع يعرف بالعقل، «ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع، فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكى الكاذب»[4].

ونأتي إلى الوصية الثالثة وهي المتمثلة في الكفّ عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات، فـ«الحكم على مراد الله سبحانه، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، بالظن والتخمين خطر، فإنما تعلم مراد المتكلم بإظهار مراده، فإذا لم يظهر، فمن أين تعلم مراده إلا أن تنحصر وجوه الاحتمالات، ويبطل الجميع إلا واحدا، فيتيعيّن الواحد بالبرهان»[5].

وواضح أن "دَانِشْمَنْد"[6] لم يشأ وضع قانون مضبوط للتأويل، فقد قرر من البداية أن يكون قانونه "كليّا"، وأجمل الحديث في الوصايا الثلاثة معتذرا بكراهية الخوض في المسائل التي تصطرع فيها التأويلات كمثل حديث حصاص الشيطان[7]، وحديث الحوض[8] والبرزخ مما ليس عنده تحقيق في تفصيل المراد به، ويطبق الغزالي "قانونه" على الأسئلة التي تلقاها معتمدا برهان العقل متجنّبا التخمين والظنّ فيما لا يُعرف إلا بمجرد النقل، وهو ـ بالنسبة للغزالي ـ مما خفي مراده ولم يؤمر فيه بعمل، ولا يقتضي من الاعتقاد غير  الإيمان المطلق والتصديق المجمل.

وردّ الغزالي قضية التأويل إلى التصادم بين المعقول والمنقول في أول النظر وظاهر الفكر، ورأى بأن الذين وقفوا على الإشكالية انقسموا بين مفرط بتجريد النظر إلى المنقول، ومفرط بتجريد النظر إلى المعقول، ومتوسط طمع في الجمع بين المنهجين، ثم انقسم المتوسطون إلى من جعل المعقول أصلا والمنقول تابعا، وإلى من جعل المنقول أصلا والمعقول تابعا، وإلى من جعل المعقول والمنقول معا أصلا واحدا[9]، وهؤلاء يمثلون عند الغزالي «الفرقة المحقّة، وقد نهجوا منهجا قويما»[10]، لأن «من طالت ممارسته للعلوم وكثر خوضه فيها، يقدر على التلفيق بين المعقول والمنقول في الأكثر بتأويلات قريبة»، ولكن جعل المنقول والمعقول أصلا واحدا، والتمرس بالعلوم، لا يعني بلوغ المرام في العملية التأويلية، ما دامت هناك مواضع تتعدّد فيها التأويلات، أو يضطر فيها المؤوّل إلى تأويلات بعيدة تكاد تنبو الأفهام عنها، وهذا ما جعل الغزالي يجمل وصاياه على الوجه الذي قدمناه[11].


هوامش

[1] ـ أبو حامد الغزالي، قانون التأويل، ص 20.

[2] ـ سورة الإسراء، الآية 85.

[3] ـ أبو حامد الغزالي، سبق ذكره ص21.

[4] ـ أبو حامد الغزالي، نفسه ص21 بتصرف.

[5] ـ أبو حامد الغزالي، يقول: «ولست أرى أن أحكم بالتخمين، وهذا أصوب وأسلم عند كل عاقل، وأقرب إلى الأمن في القيامة، إذ لا يبعد أن يسأل في القيامة ويطالب ويقال: حكمت علينا بالظن، ولا يقال له: لم لمْ تستنبط مرادنا الخفيّ الغامض الذي لم يؤمر فيه بعمل، وليس عليك فيه من الاعتقاد إلا الإيمان المطلق، والتصديق المجمل وهو أن يقول: )آمنا به كلّ من عند ربنا( (آل عمران:7) فهذه المطالبة في القيامة بعيدة، وإن كانت فالجواب عنها أسهل، ولذلك قال الإمام (مالك بن أنس) رضي الله عنه لما سئل عن الاستواء: "الاستواء معلوم، والكيف غير معقول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"»أ.هـ. ص 24.

[6] ـ لقب يطلق على أبي حامد الغزالي، وهو من الفارسية ومعناه "الحكيم" أو "الماهر"، ينظر: دراسة الدكتور محمد السليماني وتحقيقه لكتاب "قانون التأويل" لأبي بكر ابن العربي. دار الغرب الإسلامي، ص 111.

[7] ـ إشارة إلى الحديث الذي سئل فيه الغزالي، ونصه: حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى»، رواه البخاري، في الآذان: باب فضل التأذين، وفي أبواب أخرى، ينظر صحيح البخاري. 608 في الأذان.

[8] ـ رواه البخاري في صحيحه: حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال: قال عبد الله بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها فلا يظمأ أبدا» ينظر، البخاري. رقم 6093 (6579 عند بيجو ـ الرقاق).

[9] ـ أبو حامد الغزالي، نفسه، ص15.

[10] ـ نفسه، ص 20.

[11] ـ انتقد الغزالي الفرق الأربعة الأولى، فوصف الذين جردوا النظر في المنقول دون المعقول بأنهم «قصروا طلبا للسلامة من خطر التأويل والبحث، فنزلوا بساحة الجهل، واطمأنوا بها»، أما الذين جردوا النظر في المعقول فقال إنهم «غلوا في المعقول حتى كفروا إذ نسبوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الكذب لأجل المصلحة»، أما الفرقة التي جعلت المعقول أصلا والمنقول تابعا فإنهم يضطرون إلى جحد ما يشقّ عليهم تأويله حذرا من الإبعاد في التأويل، أما الذين جعلوا المنقول أصلا وتطرّفوا من المعقول فقد ظهر لهم التصادم بين المنقول والظواهر في بعض أطراف المعقولات، ولم يكثر خوضهم في المعقول، فلم يتبين عندهم المحالات العقلية، فحكموا بإمكانها. راجع أبو حامد الغزالي، قانون التأويل، سبق ذكره من ص15 إلى ص 19.