الدكتور محمد العربي ولد خليفة وضع النّقاط على الحروف..

التّأسيس لـ"المعرفة" يبدأ من هنا..

كان من حسن حظّنا، في خضم التّجاذب حول توجّه المنظومة التربويّة بالجزائر، والقضايا الجدليّة التي أثارها النّقاش حول مستقبل قطاع التّربية والتّعليم، أن تحصّلنا على مبحث متميّز للدكتور محمد العربي ولد خليفة، وسمه بعنوان: "التّربية والتّكوين العالي: الرصيد، الخيارات ومقاييس المردود"، ولم نكن لنفوّت الفرصة كي نقتبس منه ما يغنينا عن "الجدل المؤدلج" الذي اصطنع قضايا تدّعي كل واحدة منها أنها تمتلك "الحقيقة"، مع أنها تشترك جميعُها في التّوقف عند حدود "الاتهام" و"الاتهام المضاد"، ولا تتجاوز ذلك، وهو ما ينأى بها عن دقّة المنهج، ووضوح الرؤية ورصانة الأسلوب، فلم تمثّل ـ على مسار الحوار التربوي ـ سوى حلقة جديدة من مسلسل متكرر لا ينتهي إلى شيء ذي بال، كما هي عادته.

كتب: محمد كاديك


الدكتور محمد العربي ولد خليفةوليس ينبغي أن تفوتنا الإشارة إلى أننا حين نقرأ مبحثا للدّكتور محمد العربي ولد خليفة، فإننا نحلق في سماوات الفكر، ونجتني من ثمرات الخبرة والتّجربة، ونفتح بابا واسعا على المعرفة الأكاديمية الرّصينة، ولقد وجدنا الدكتور ولد خليفة في بحثه عن "الرصيد والخيارات ومقاييس المردود" في "التربية والتكوين العالي" كما عهدناه دائما، صوتا ينطق بالحكمة، ويلقي الضّوء على ما غمض من المفاهيم بأسلوب سلس جذاب، يتيح لقارئه الإحاطة بالإشكاليات المطروحة، ويقدم رؤى لها قيمتها المعرفية، وحلولا مشفوعة بالحجج العلمية، إلى أن وضع يده على الإشكالية العضال التي تتواصل في منظومتنا التربوية والجامعية دون أن تجد سبيلا إلى النّقاش.. هي إشكالية "العلوم والتكنولوجيا" التي نراهن عليها بما تقتضي سرعات العالم الحديث، دون أن نعير انتباها إلى أن صورة "الشجرة" موضوع الرهان ستظل ناقصة ما دمنا نغفل بقية أغصانها.. تلك هي علوم الانسان والمجتمع التي ضاعت منا في زحمة مغالطات تقدم نفسها في صورة حقائق ثابتة، وتتمأسس وراء سدول من الرؤى الأيديولوجية لتحجب الحقائق، كما سيأتي بيانه..

التأسيس والظروف المحيطة..

يطرح الدكتور محمد العربي ولد خليفة سؤال "التّربية والتّكوين العالي" ضمن رؤية يؤسّس لها على المستوى الرّمزي بـ"يوم الطّالب" المجيد، لتكون الإطار العام الموجّه لخيارات الأمّة في البحث عن «بناء مدرسة وفيّة في مضامينها لمسارنا التاريخي وتجربة شعبنا، وفي نفس الوقت تساهم في تقدم المجتمع وبناء حداثته أي مستقبله»، وهذا ـ بطبيعة الحال ـ ما ينبغي أن يكون السّؤال الكبير الذي يحتوي النقاش، بعيدا عن "الصراع" الذي تغذيه المواقف الأيديولوجية في مختلف صورها، أو حتى ما يرجع إلى «معايير التصنيف والترتيب للجامعات حسب معايير أنغلوسكسونية تميل إلى ما ينشر من بحوث باللغة الانكليزية».

ويؤكد الدكتور ولد خليفة أن «المنظومة كلها (تربوية وجامعية) تقع في صميم إشكالية التّخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي» وأنها «مطالبة بتصميم حاضر ومستقبل مغاير للواقع، أي أفضل منه» مثلما ينبغي أن تختار «الاقتصار على تكوين نخبة الامتياز (أو) النشر الأفقي للتعليم والتّكوين العالي»، ولكنه قبل أن يطرح خياري المنظومة، كان قد أسّس المنطلق على المستوى الرمزي من خلال الخط النوفمبري المجيد.. ذلك المنهج القويم الذي توّج بالنصر المبين على المستعمر الفرنسي، فأشار إلى تلك الوصية الذهبية التي ألقى بها قادة ثورتنا المجيدة إلى الطلبة ممن قاطعوا الدراسة تلبية لنداء ثورة التحرير، فقد «أوصى القادة الثوريين الشّباب بمواصلة التّكوين، بل أرسلوا الكثير منهم إلى معاهد البلدان الشقيقة والصديقة لتحضير إطارات جزائر المستقبل أثناء ملحمة الكفاح المسلح»، وهذا الروح النوفمبري هو ما أنتج المنجز الأهم: «ديموقراطية التربية والتعليم في كل أنحاء القطر»، وهو التوجّه الذي يصفه الدكتور ولد خليفة بأنه «بقي ثابتا حتى أثناء شحّ موارد الدولة في بداية الستينيات من القرن الماضي وفي منتصف الثمانينيات، ولم تتخلّ عنه كلّ القيادات التي تولّت مختلف المسؤوليات العليا في هرم الدولة».

ولكي يوضح الظروف العامة التي أحاطت بتأسيس المنظومتين التربوية والجامعية بالجزائر، أو مسار التربية والتكوين، وضع الدكتور ولد خليفة عددا من الملاحظات الهامة التي ينبغي أن لا تفوت الباحث عن التصوّر الشامل للمبحث، والأسباب التي جعلت "رغبات الانتقاء الطبقي" تعجز عن تغيير  التوجه العام لديمقراطية التعليم في الجزائر، ومنها مرجعية بيان نوفمبر الذي «أعلن أن أحد الأهداف الكبرى للثورة هو بناء دولة ديموقراطية اجتماعية» كما يقول الدكتور ولد خليفة، ويوضح بأن هذا المطلب «يعني تساوي الفرص بين جميع المواطنين بل ومساعدة الأقل حظوظا من الفئات الفقيرة أو المعزولة جغرافيا على دخول السباق، والاستفادة من التعليم والتكوين في كل المستويات من المدرسة إلى الجامعة»، ليشرح ـ في مستوى ثان ـ التركيبة الاجتماعية الجزائرية في تاريخيتها ووضعها الثقافي بما هي تركيبة لا تنصاع لـ"الطبقية"، سواء بما يوافق الرؤية الأيديولوجية أو بما يوافق الوضع الاقتصادي، ولكنه ألمح إلى أن «الترخيص بفتح المدارس الخاصة، يؤذن ببداية محتشمة لظهور نمطين من التعليم أحدهما للخاصة، والآخر للعامة».

ولقد أحاط الدكتور محمد العربي ولد خليفة بخلفيات "الصّراع" في ساحة التربية، وألقى عليها من الأضواء ما يجعلها في متناول الدّارس؛ ثم أشار إلى نزاعات ظهرت «بعد اعتماد المدرسة الأساسية وإلزامية التعليم إلى غاية السّادسة عشرة من عمر المتمدرس»، وهي نزاعات تتمحور أساسا حول "اللّغة"؛ لينتهي إلى طرح سؤال منظومة "التربية والتكوين" ضمن إطار "الحوار" لا "الصراع"، فـ«الحوار هو الذي ينبغي أن يستمر كما هو الحال في كل الأنظمة التربوية في العالم» كما يقول الدكتور ولد خليفة.

نقاط على الحروف..

سبق القول إن إشكالية منظومة "التربية والتكوين العالي" ـ كما يراها الدكتور ولد خليفة ـ تقع في صميم إشكالية التّخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ولهذا، يذكّر بأن كل الدراسين يجمعون على أن «نظام التربية والتعليم العالي هو نقطة الانطلاق للتّحرر من التّخلف الثّقافي وتسريع وتيرة التّنمية والتّحرر التّدريجي من التّبعية في ثلاث قطاعات رئيسية هي الصناعة والفلاحة والخدمات» وتحقيق هذا المبتغى يقتضي «توطين المعرفة والتكنولوجيا والحرص على الاستثمار في البحث العلمي النّظري والتّطبيقي للتّنمية» ولا شكّ أن الوصول إلى هذه الغاية يقتضي طرح الأسئلة المناسبة، ولهذا طرح الدكتور ولد خليفة فكرة الاختيار بين «الاقتصار على تكوين نخبة الامتياز وإما النشر الأفقي للتعليم والتكوين العالي» ثم قدم مزايا ونقائص كل خيار، ليخلص إلى أن الرهان الحقيقي إنها هو على «المناهج والمكونين الأكفاء والتقويم الموضوعي للتحصيل المدرسي والجامعي» دون أن يضع من الاعتبار «مشاركة المحيط من الاسرة إلى منظمات المجتمع الأخرى، في إسناد التربية والتّكوين العالي والاستفادة من التكنولوجيات الحديثة منذ الطفولة، وتمكين المتمدرسين من التدريب على استعمالها في كل أنحاء القطر».

وماذا عن موقع "التربية والتكوين الجامعي" من "التّنمية"؟ هل هما على الهامش كمّا مهملا، أم أن "التنمية" تمر عبر منظومة قويّة متماسكة تعي الواقع وتستشرف المستقبل؟!

هذه نقطة بارزة لها أهميتها، اختار الدكتور ولد خليفة أن يوضّحها من خلال وصف دقيق لحال مؤسسات التّكوين المدرسي والجامعي، فقد أشار إلى أن هذه المؤسّسات «تواجه عزلة مصطنعة عن محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي» وأن الحشود من التّلاميذ والطّلبة تنهال عليها «دون توجيه مدرسي أو متابعة بداغوجية»، فإذا أضفنا «انعدام وسائل التثقيف خارج المدرسة» ورأينا مخططات التّنمية تكتفي بالخبرة الأجنبية «ولا تشرك الخبرة الوطنية في التّصور والتنفيذ»، يتبيّن لنا أن التصوّر العام لـ"التنمية" لحد الآن، يعتمد اعتمادا كليّا على "استيراد الجاهز" بما تتحيه الوفرة المالية؛ وهنا يضع الدكتور ولد خليفة سطرا له أهميته، فيقول: «إن الوفرة المالية الراهنة في البلدان المصدّرة للطاقة، وفي الجزائر بوجه خاص، ليست دائمة ولا مضمونة، فالكفاءة والمهارات والحكم الراشد هو الذي ينشئ الثروة وينمّيها على المدى الطويل».

ويبقى السؤال الكبير.. كيف تتحقق التنمية، وكيف يتحقق التقدم في عالم يفيق كل صباح على الجديد؟! إنه الوضع المعقّد الذي تفرضه معطيات جديدة تتجاوز الأسئلة التي يصطنعها "الصراع"، وتقديرات خاطئة تفرضها تصنيفات لا تقدّم الحقائق بالضرورة..

"الانسان" في ظلال المعرفة..

يراهن الدكتور ولد خليفة، في مبحثه، على مفهوم "الانسان"، ويضع يده ـ لأول مرة فيما بلغنا من دراسات ـ على نقطة غاية في الأهمية، وهو يعيد الأمر إلى نصابه، فـ"علوم الانسان" ليست من الكماليات، ولا يمكن الاستغناء عنها أو تجاوزها، والقول بأن مناط التّقدم إنما يكون على "الرياضيات" و"الفيزياء" و"علوم الطبيعة"، إنما يعبر عن «توجه خاطئ يرجع إلى التأثر بالوجه الظاهر والمباشر للحداثة والتقدم العلمي والتكنولوجي بعد صدمة الاحتلال الفرنسي للجزائر وإدراك مؤلم للفجوة التي تفصلنا عن الصناعات والتكنولوجيا عند القادمين من وراء البحر» كما يقول الدكتور ولد خليفة، ويضيف بأن «شجرة العلم ليس بها فروع خسيسة وأخرى شريفة»؛ وظاهر أن استقرار هذه التفرقة بين فروع العلوم في المخيال العام، واعتبار "التقدم" رهنا لفرع علمي دون آخر، لا يمكن أن يكون سوى حجر العثرة في سبيل التقدّم، ولهذا يؤكد الدكتور ولد خليفة بأن «الاتجاه إلى تنمية الخبرة في ميدان العلوم الصحيحة والتقانات، ينبغي أن يتعزز ويتأصّل وينتشر في شتى شؤون الحياة، وأن يوازيه ويلتقي معه اتجاه مماثل يعمل على تنمية الخبرة  في كل فروع المعرفة الأخرى».

لقد وضع الدكتور محمد العربي ولد خليفة في قراءته المعمّقة للإشكاليات التي تواجه منظومتي التربية والتكوين الجامعي، خارطة طريق حقيقية، يتيّسر من خلالها تحقيق الأهداف الكبرى للأمة، ولا نغالي إن قلنا إنه طرح الأسئلة الأكثر عمقا، وقدم الحلول لمختلف المشاكل التي قد تطرأ على مستوى التكوين أو البحث والوسائل، شارحا بالأمثلة، وقارئا بالأرقام..

ولسنا نغالي أيضا إذا اعتبرنا مبحث الدكتور ولد خليفة، وثيقة مؤسسة ينبغي أن لا نتركها لتفوتنا في زحمة المغالطات التي اصطنعتها الأيديولوجيات.. إذا أردنا واقعا افضل.. فلنبدأ بإعادة الاعتبار لفروع العلوم، ولنراهن على الانسان.. فـ«الانسان هو الذي يخلق الامكانات والوسائل، وليس العكس» كما يقول الدكتور ولد خليفة.