الدكتور محمد كاديك لـ”الخبر”

الرواية ملحمة البرجوازية ولكنها ملحمة المرحلة وليست ملحمة الطبقة

يتحدث الدكتور محمد كاديك عن كتابه الصادر حديثا عن دار التنوير، بعنوان: من الملحمة إلى الرواية.. آليات الانتقال الأجناسي" ويتوقف عند مسألة الانتقال من الملحمة إلى الرواية في الغرب، وظروف انتقالها إلى العالم العربي.

حاوره: حميد عبد القادر

تقدم في كتابك الملحمة وتقول إنها سبقت الرواية، وتتحدث عن لوكاتش الذي تحدث عن وجود آثار أدبية شرقية تعود لعصور قديمة، كيف حدث الانتقال من الملحمة إلى لرواية؟

من الملحمة إلى الرواية
من الملحمة إلى الرواية
محمد كاديك
محمد كاديك

نبدأ من سبْق الملحمة على الرواية،ـ وهو ما يُلقي به عنوان الدّراسة إلى ذهن القارئ من أول وهلة، فالبحث يركّز على مفهوم الانتقال في حقل الأجناس الأدبية، ويبحث في أدواته وإجراءاته وفق مقتضيات السّيرورة الانتقالية من "الملحمة" إلى "الرواية"، ما يوحي بسبق  إلى الوجود (إن صح التّعبير)، غير أنّ سبق الملحمة المقصود هنا ليس سبقا على محور زمنيّ، فالرواية كانت موجودة في عصر الملحمة، (رواية أبوليوس المداوروشي مثلا) ولكن "وجودها" لم يمنحها قوة التّأثير الّتي تجعل منها مهيمنة على العصر، أي صانعة لأفكار العصر وموجّهة لتطلعاته؛ ولهذا، بقيت جنسا مهمّشا إلى أن توفّرت لها ظروف مكّنتها من القيام بوظيفتها التي تضطلع بها إلى غاية أيامنا هاته..  مسألة السّبق إذن، متعلّقة بوظيفة الجنس الأدبي، والحديث عن انتقال من الملحمة إلى الرواية، هو حديث عن الانتقال من مهيمنة أجناسية إلى مهيمنة أخرى حلّت محلها.

أما مسألة الكيفية التي حدث بها الانتقال من "الملحمة" إلى "الرّواية"، فقد كان من مقتضيات الحديث عنها تحديد المفاهيم وتأصيلها في حاضنتنا اللّغوية العربية، خاصة منها مفهوم "الانتقال" الذي لم يبرح بداهته المكتسبة في حقل العلوم السّياسية؛ لهذا كان ينبغي البحث في مفهوم "الانتقال" وأدواته وآلياته كي نتمكّن من قراءة التحوّلات التي انتهت بـ"الرّواية" إلى فرض سلطانها على المادّة الأدبيّة.. ولقد حرصنا على الإحاطة بمفهوم الانتقال في مختلف الحقول المعرفية التي أفادت منه، وانتهينا إلى اقتراح مفهوم "الانتقال النّاعم" الذي ينسجم تماما مع التحوّلات التي تعرفها المنظومات الأجناسية.. وبما أن هذه التّحولات لها عمقها في التاريخ، وأنّ الفوارق بين "عصر الملحمة" و"عصر الرّواية" متجّذرة بالتأكيد في العمق الحضاريّ، يمكن لنا أن نلاحظ بسهولة أنّ أدوات الأعمال الملحميّة التي تفرضها الحضارة الشّفاهيّة، تختلف عن أدوات الأعمال الرّوائيّة في الحضارة الكتابيّة؛ وهو ما يطرح سؤال العقل الشّفاهيّ في مقابل العقل الكتابيّ؛ تماما مثلما يطرح سؤال اللّغة وطبيعتها، وكلّ ما يجذّر الفروق بين الجنسين على المستويات الشّكليّة والأسلوبيّة والوظيفيّة؛ كما يفرض التّطرق إلى عوامل من خارج الأدب، كان لها تأثيراتها المباشرة على تحريك سيرورة الانتقال نحو الرواية؛ مثل "المطبعة" التي كان لها دورها الرّيادي في استفزاز لحظة الانتقال من الشفاهية إلى الكتابية.

ومتى ولدت الرواية في الغرب، وما هي الظروف التي أدت لميلادها؟

فرانسوا رابليه
فرانسوا رابليه
ميخائيل باختين
ميخائيل باختين
جورج لوكاتش
جورج لوكاتش

لعل الحديث عن الظروف التي اجتمعت وأنتجت "الرواية"  يتيح لنا تكوين صورة مجملة عمّا سمح لهذا الجنس بالهيمنة على المنظومة الأجناسية، فإذا تحدثنا عن أعمال فرانسوا رابليه وسيرفانتيس، نكون – تاريخيّا – أمام اللحظة التي استفزّت سيرورة الانتقال نحو  هيمنة الرّواية، دون أن نضع من اعتبارنا أن هذه الرواية كانت موجودة منذ القدم، إذ لا يمكن أن نصف "دون كيشوت" بأنّها أول رواية، ونعترف - في الوقت نفسه - لـ"تحوّلات" آبوليوس المداوروشي بأنها رواية.. هكذا لا يستقيم الأمر.. لنقل إن "دون كيشوت" سيرفاتنيس و"غارغنتويا" رابليه، كانتا أول روايتين مطبوعتين.. أي أنهما سجّلتا أول حركة للانتقال من "الشّفاهية" التي تعتمد على السّمع، إلى "الكتابية" التي تعتمد على القراءة الصّامتة..  وهذا حدث سجل تحوّلا على المستوى الحضاري لم يتح لرواية آبوليوس أن تحظى به في القرن الثاني الميلادي.. ولهذا كله، لا يمكن أن نطمئن إلى وصف أول رواية هكذا دون أن تتضح أمامنا الخلفيات التي جعلتنا نختصّ عملي سيرفانتيس ورابليه بوصف "الأسبقية"، ولهذا كذلك، نرى أن "الرواية"، مثل بقية عناصر المنظومة الأجناسية، كانت دائما موجودة على مستوى "الحضور"، تماما مثل مفهوم الجنس الأدبي ومفهوم الانتقال؛ فالوجود على مستوى "الحضور" يعني المثول الذهني دون التحقق الواقعي، وهذا التحقق في الواقع هو ما يقتضي سيرورة تاريخية تنتهي إلى اجتماع عدد من الظروف، هي - في حالة الرواية – مجموعة هامة من الانتقالات على مستويات مختلفة يمكن أن نقول إنّ لحظتها الأولى انبثقت في القرن الحادي عشر مع السكولائيين، ثم إلى بدايات تحول الشكل الملحمي إلى أنشودة المآثر وروايات الفرسان وغيرها من الاشكال التي مهّدت للرواية الحديثة..

هل كان للبرجوازية وعي بأن الرواية سوف تعبر عن طموحاتها؟

صفحة جريدة "الخبر"
صفحة جريدة "الخبر"

يجب أن نوضح هنا بأنّ مقولة "الرواية هي ملحمة البورجوازية" أو أنّ "الرّواية هي المعبّر عن المجتمع البورجوازي"، تقصد إلى "المرحلة" التالية لمرحلة الإقطاع التي لم تعرف معنى "الفرد"، فـ"الفردانية" كانت نتيجة للانقلاب العلمي الكبير الذي سمح بالمرور من "العالم المغلق" إلى "العالم اللامنتهي"، وهو ما هدم التراث الكنسي وأسس لرؤية مختلفة للكون، أي أنه أفضى إلى تراتبية قيم جديدة تمأسست مع التّصور الجديد للعالم الذي لم تعد الأرض مركزا له كما افترض كوبيرنيك، وأيّده غاليليو غاليلي فيما بعد..  كان تغييرا مذهلا، أحدث تغييرات جذرية في طبيعة التفكير؛ وكان من منتجات هذا التغيير معنى "الفرد" الذي لا يمكن أن يقتنع بخطاب يتأسس على قدرات أبطال خارقين في زمن مطلق لا يمثّل الانسان الجديد ولا يقدم الحلول لواقعه؛ لهذا ذهب جورج لوكاتش إلى أن "الرّواية الحديثة" نشأت في أثناء الصراع بين البرجوازية الصّاعدة، والاقطاعية التي ضيعت أسباب وجودها مع الأنسنة المدنية والثورات الفلسفية والعلمية.. ولكن "الرواية" لا تحمل الهمّ البورجوازي، ولا تعبر عن طموح الطبقة في ذاتها، وإنما تستعمل أدوات العصر الذي هيمن عليه السّلوك البورجوازي؛ بل إن لوكاتش نفسه يرى أن سيرفانتيس ورابليه خاضا صراعا على جبهتين اثنتين: الأولى ضد تدهور معنى الانسان الذي فرضته البورجوازية الصّاعدة من جهة، وكافحت – من جهة أخرى - "البطولة" التي لم تعد شكلا مجديا بعد استقرار  "الفردانية".. هكذا تكون الرواية ملحمة البورجوازية فعلا، ولكنها ملحمة المرحلة وليست ملحمة الطبقة..

وما هي الظروف التي انتقلت فيها الرواية إلى العرب؟

هنا نحتاج إلى إعمال النّظر بشكل معمّق حتى نتخلص من المغالطات المفاهيمية التي يمكن أن تتحوّل إلى معوقات حقيقية لكل ما ينفع المشهدين الأدبيّ والنّقديّ معا، مثلما كانت الحال مع سؤال الأسبقية التاريخية بين روايتي "زينب" المصرية و"غابة الحق" السورية، فهذا سؤال  أهرق كثيرا من الجهد دون طائل، فقد توقّف عند حدود التنافس على الرّيادة ولم يتجاوز ذلك،  ثم تفرّع حتى نال كل بلد عربي منه حظّا، ولكنه بقي سؤالا دون جدوى، فليس يغني شيئا تمييز "الرواية" وفق انتماء عرقي أو لغوي أو موقع جغرافي، لأنّ "الرواية" هي "الرواية".. وهي جنس أدبي يتجاوز الحدود والأعراق واللغات، وليس ما يدعو إلى معاودة اكتشاف الأكسجين مع كل مجموعة اجتماعية تستوفي شروط الانتقال من الحاضنة الحضارية الشفاهية إلى نظيرتها  الكتابية.. إذا اتفقنا على هذا، نستطيع طرح الانتقال إلى الرواية بالضفة العربية، ويمكن لنا أن نعود بهذا الانتقال إلى "اللحظة القرآنية" التي أسست لمعنى "الفرد" ، ويسّرت أدوات الانتقال من "القبيلة" إلى "المدينة"؛ وسنجد أن هذا المسار  الانتقالي تعزّز في عصر التدوين، بما هو لحظة تاريخية فارقة في السيرورة الانتقالية التي حركتها اللحظة القرآنية، فـ"التدوين" يمثل منطلق الانتقال من "الشفاهي" إلى "الكتابي"، ولقد  ازدهر وأنتج حركة ترجمة واسعة، وشهد صعود "النثر" (الكتابي) الذي صار ينافس "الشعر"  (الشفاهي)؛ ولم يلبث عصر التدوين طويلا، ربما أقل من مائة سنة، ليشهد نوعا من الكتابة النثرية محدثا على غرار ما جاء به عمرو بن بحر الجاحظ، وبديع الزمان الهمذاني، وهو لون من الكتابة السّاخرة يقابل "الهزلي الجاد" الذي يجعله ميخائيل باختين بداية الرواية مع فرانسوا رابليه.. لهذا، نرى أن أسباب الانتقال إلى الرواية كانت تكاد تكتمل في عصر الجاحظ، ولكن التاريخ لم يسعفه لأن الحضارة المهيمنة كانت شفاهية مختلطة بتعبير بول زيمتور، أي أن مفهوم القراءة استقرّ في منطقة رمادية بين "الشفاهي" والكتابي"، كان الكتاب فيها موجودا، ولكنه لم يرسخ القراءة الصامتة بمثل ما أتيح لأعمال فرانسوا رابليه التي وافقت ظهور مطبعة غوتنبرغ..  واضح إذن أن المسار العام للتاريخ وفّر للحاضنة اللغوية العربية أهمّ ظروف نشأة الرواية الحديثة منذ عصر الهمذاني والجاحظ، ولكن  كان يجب أن يستقر العقل الكتابي أولا كي ينتج مفهوم الرواية، وهذا لم يحدث حتى حين أهدى غوتنبرغ مطبعة إلى السلطان العثماني، فتم إصدار فتوى بتحريم الطباعة باللغة العربية، ليبقى المسار الانتقالي معلقا إلى غاية القرن التاسع عشر .. ولهذا، نرى الرواية في الضفة العربية محاكاة للرواية الغربية، ولا نراها عنوانا لاكتمال سيرورة انتقالية من الشفاهية إلى الكتابية.. وهو ما يعني أن الرواية ما تزال في حاجة إلى جهود كبيرة كي تتولى وظيفتها الطبيعية، ويكون لها تأثيرها وفاعليتها في المجتمعات العربية..

هل بقي الكتاب العرب يحتفظون ببعض العلاقة مع تراثهم السردي، أم أنهم تجردوا منه وانغمسوا في تأثيرات غربية؟

نعتقد أن انطلاقة المسار الانتقالي الجديدة نحو الرواية في نهايات القرن الثامن عشر بالضفة العربية، كانت من التراث السردي نفسه، فقد سجل عبد الله ابراهيم أن المرويات السردية العربية حظيت بعناية بالغة من المستشرقين الذي وفروا لها إمكانية الانتشار في أواخر القرن السابع عشر، قبل أن تحظى مصر بمطبعة بولاق، ويبدو أن انتشار هذه المرويات هو ما سمح بازدهار "محاكيات" المقامات العربيّة؛ وهذا يعني أن السّيرورة الانتقاليّة إلى "الرّواية" في الضّفة العربيّة، وفّرت، على غرار مسارها في الغرب، المادّة المكتوبة التي تيسّر الوصول إلى الشّكل الرّوائي الحديث، فـ"المرور" الطّبيعيّ من "الملحمة" إلى "الرّواية" مقتضاه تحضير ما يخترق السّائد، ويسايره إلى غاية تحقّقه التّاريخيّ؛ ولهذا نرى أن "الكتابيّ" حرّك سيرورة اختراق "الشّفاهيّ" وسرَّعَها في القرن الثّامن عشر.. مع بداية النّشر؛ فإذا استغرقت الحركة بالضّفة العربية قرونا طويلة صارت أشبه بالثغرة التاريخية الهائلة، فذلك لأنّها ضيعت الفرص التاريخية التي أتيحت لها، حين حرّمت السرد القديم ومنعت تداوله، وتصدّت للفلسفة ومنعت تداول كتب ابن رشد وابن خلدون، وحافظت على العقل الشفاهي من خلال صدّ كل ما يمكن أن يؤدي إلى استقرار العقل الكتابي.

الانتقال الاجناسي لا يفرض القطيعة بالضرورة

لهذا أطلقنا عليه اسم الانتقال الناعم.

كيف يحدث الانتقال من جنس أدبيّ إلى جنس آخر؟

الانتقال بما هو ظاهرة، يمثل ديمومة في الحياة، ولقد ازدهر علم الانتقال منذ عام 1970 في العلوم السياسية، وصارت له ثمرات في مختلف الحقول المعرفية مثل علم الاجتماع والعلوم النفسية والتربوية؛ والانتقال في مجمله هو سيرورة تاريخية تتضمن ثلاث محطات: أزمة، صراع، تحوّل؛ وهو ما يحدث في كل حالات التغيير، فإذا تحدثنا عن الانتقال من مهيمنة أجناسية إلى مهيمنة أخرى، كما هي الحال بين الملحمة والرواية، فإننا نكون قد وصفنا تغييرا جذريا على كل المستويات تحقق على مسار تاريخي محدد؛ وهو تغيير يمتد إلى العناصر الجوهرية للتفكير، وقد يكون ملموسا في حالة الانتقال السياسي مثلا؛ ولكنه في حالة الأجناس الأدبية يتسلل بهدوء إلى الذائقة بعد أن يوفر كل أسباب التّحوّل، ويكون مفهوم "الأزمة" (بما هي اختلال وظيفي) في هذا النوع من الانتقال، أقرب إلى مفهوم "الحاجة" التي لا تركز على الاختلال قدر ما تحيل إلى النقص.. كما أن الانتقال الاجناسي لا يفرض القطيعة بالضرورة، كما هي الحال مع انتقالات أعلى، لهذا، أطلقنا عليه اسم الانتقال الناعم.


نشر بجريدة "الخبر" الجزائرية، العدد 9360 الصادر يوم 10 أكتوبر 2019