حوار هادئ مع عز الدين جلاوجي
ليس ينفع الكتاب الذي لا يهدم قارئه ويعيد بناءه من جديد؛ وليس ما يدعو إلى القراءة إن لم تستفزّ الرّغبة في البحث وتستنفر أداوت التّأويل، فترغم القارئ على إعادة ترتيب مسلّماته ومراجعة رؤاه، أو تدفع به إلى معامع النّقاش والمساءلة؛ ولا تختلف الحال مع الحصص التّلفزيونيّة في عمومها، فهذه تمتلك من الأدوات ما يتيح لها تيسير الصّعب وتوضيح الغامض؛ فإذا كان الكتاب نفسه هو موضوع الحصّة التّلفزيونيّة، تكون الفائدة أوسع والرّسالة أنفع؛ وهذا ما نلمسه في "قراءات" الجزائريّة الثالثة (الإخباريّة) التي يعدّها ويقدّمها الإعلاميّ الورعُ والأديبُ الأريبُ، الأستاذ فرحات جلاب..
كتب: محمد كاديك

ولقد استوفقتنا "قراءات" في عددها الذي خصّصته لقراءة أعمال الدكتور عز الدّين جلاوجي الإبداعية؛ فقد أثار ضيف "الجزائريّة الثّالثة" عددا من القضايا تستفزّ الرّغبة في البحث، وتستنفر آلة النّقاش، كمثل ما هي عادة ضيوف "قراءات"؛ غير أن المختلف مع جلاوجي أنّه تحدّث عمّا يسمّيه "المسرديّة" بما هي جنس أدبيّ استحدثه، وقال إنّ ما دفعه إلى استحداثه هو هاجس الاحتفاظ بالنّص المسرحيّ للقراء، ذلك أن النّصّ المسرحي يوجّه إلى العرض فيضيع على ملايين القراء؛ وعادة العروض المسرحيّة أنّها تتلاشى ويستولي عليها النسيان بمجرد العرض؛ أما هاجس جلاوجي الأكبر، فهو سؤال غاية في الأهميّة: إلى متى لا نقدّم شيئا جديدا للانسانية؟!.. إلى متى لا ننجز شيئا جديدا؟! .. وجاءت "المسرديّة" لتكون إضافة إلى المنظومة الأجناسية، وفقا لما قال..
قضايا..
ولقد أثار جلاوجي، قبل الوصول إلى "المسرديّة" كثيرا من القضايا، بينها مسألة علاقة المثقف والسّلطة (مهما تكن السلطة اجتماعية أم إبداعية أم ثقافية..) فالمبدع - كما يقول جلاوجي – ينبغي أن "يتمرّد"، لأنّه «لا يمكن أن يأتي بالجديد إذا كان منسجما تماما مع الاتجاه العام للإبداع وللحركة الإبداعية والثقافية بصورة عامة» ومثال ذلك "بريخت" الذي خرج عن المألوف وتجاوز المسرح الأرسطي بـ"شجاعة كبيرة"؛ كما رافع جلاوجي لصالح النّهل من التراث، والسّير على هدي الأجداد، ومن هؤلاء «بديع الزمان الهمذاني الّذي "تحدّى" ذائقة إبداعيّة كبيرة عند العرب، وأنجز شيئا جديدا يُسمّى "المقامة"»؛ ولم يعدم الهمذاني الشجاعة في ذلك بطبيعة الحال.
وسعى ضيف "قراءات" إلى توضيح مساراته في دروب الإبداع من خلال التّقويمات التي اقترحها للسّائد؛ فهو لا يرى المسرح "أبًا للفنون" كما هو المتعارف عليه، ولكنّه يعتبره ابنا لها، فـ"المسرح" – يقول جلاوجي - «هو نتاج تلاقح مجموعة من الفنون.. (...) على الخشبة.. هناك تزاوج بين الكلمة والحركة والصّورة والأغنية والموسيقى.. هناك مجموعة كبيرة من الفنون تأتي.. تجتمع.. تتلاقح.. تولّد شيئا جديدا يسمى المسرح».
وإذا كنّا نوافق جلاوجي في مسألتي "الصدق الفنّيّ" و"الصّدق الفكري" بما هما أهمّ سبل نجاح المبدع؛ فإنّنا نتحفّظ بخصوص "الطّاقة الاشتقاقية العظيمة للغة العربية، وهي الطّاقة التي لم يستغلّها الأحفاد، وحرص عليها جلاوجي، فنحت "المقدنس" ليجمع بين "المقدس" والمدنّس"، وكفّ عن استعمال اسم "قوس قزح" حين نحت له اسم "القوزح"؛ إضافة إلى كثير من الاصطلاحات التي سمح لها – بواسطة النحت – كي تعبّر بسهولة أكبر؛ ويبدو لنا أنّ الأحفاد لم يفرّطوا في "النحت"، لأنهم يمارسونه بتلقائية، ذلك لأنّ "النّحت" واحد من فرائض سيرورة نموّ اللّغة، ولا تنقص الأمثلة على هذا، فالنحت راسخ في يوميات التّواصل؛ ثمّ إن "قوس قزح" لا يحتاج نحتا لاسم جديد، اللّهم إلا إذا رأينا – على سبيل المثال – من يرتدي ثوبا متعدد الألوان، فنصفه بأنّه "تقوزح"..
نقاش..

لا نحتاج إلى الاعتراف بأنّ حضور عز الدين جلاوجي كان جميلا رفقة فرحات جلاب؛ فهما معا جعلا من الجلسة متعة خالصة؛ وليس يفسد لـ"الجمال" قضيّة إذا قلنا إنّ الحديث عن المنظومة الأجناسية كان ينقصه كثير من الإحكام، ذلك لأنّه اكتفى من مسألة "التّجاوز" بـ"شجاعة" بريخت والهمذاني وأمثالهما ممن أبدعوا وأضافوا، غير أن الأمر ، في حقيقته، ليس متعلقا بـ"الشّجاعة" ولا بما تصفه كتب الإخباريين بـ"السّؤدد"، وإنما مقتضاه سيرورة تاريخية وتراكم معرفيّ، فالأمر ليس قرارا فرديا يتّخذه المبدع، وإنّما هو محصّلة ظروف كثيرة تلتئم ضمن المسار العام للتاريخ؛ وهذا ما وصفه مالك بن نبي في "مشكلة الثّقافة" حين قال ما معناه إنّ التّفاحة لم تكن لتأتي بفكرة "الجاذبيّة" لو سقطت على جدّ نيوتن؛ وبما أن جلاوجي اكتفى بـ"الشّجاعة"، فإنّه مرّ بـ"الكتاب الكبار" الذين ألّفوا أعمالهم المسرحيّة شعرا، دون أن يحيل إلى طبيعة الحضارة الشفاهيّة التي تفرض على السّرد شكلا يعلق بالذّاكرة، كما هي الحال بالنّسبة لـ"الملحمة" و"التّراجيديا" و"الكوميديا" ومختلف الأنواع الشّعريّة التي لم تحض بالذّاكرة الثانوية التي وفّرتها حضارة الكتابة.
وفي الجانب الأجناسي دائما، نرى أن جلاوجي أحسن حين وضع السّبق إلى "مفهوم المسرديّة" في مستوى "الظّنّ"؛ ذلك أن "المسرح" و"السّرد" متلازمان؛ والنّظريّة الأجناسيّة الأرسطيّة إنّما صنّفت أعمال سرديّة شعريّة، منها ما يُؤدى على الرّكح؛ ومنها ما "يمسرحه" الرّاوي أو الشّاعر، كما هي الحال مع أعمال هوميروس، لأن السّياق الشّفاهيّ – كما يقول ماموسي ديانيي - يفرض على كل "فكرة" تبتغي التّعبير عن نفسها، قواعد لعبة يستحيل أن تتجنّبها؛ لعبةٌ تفرض مجموعة من الإكراهات على "الفكرة" تجعلها عاجزة عن التّعبير بفاعليّة إلا بوساطة "المسرحة" التي تنتظم لأجل التّعبير الفاعل.
وإذا أردنا أن نبسّط الفكرة أكثر، نقدّم تصنيف نرثروب فراي، وهو تصنيف بني على أساس كيفية تقديم العمل إلى الجمهور؛ فإذا عرض أمام مشاهدين يكون مسرحيّة؛ وإذا ألقي أو غُنّي أمام مستمعين يكون ملحمة؛ أما إذا كان مكتوبا، فهو يصنّف في "التّخييل".. وعلى هذا، يكون عمل جلاوجي رواية أو قصة أو حكاية إذا كان بين دفتي كتاب، ويكون مسرحيّة حين يؤدى على الرّكح؛ فإذا أكدّنا أن جلاوجي أحسن حين ألقى بـ"السّبق" إلى "الظّنّ"، فذلك لأن "المسرح السّردي" يعود – بأقلّ تقدير – إلى السبعينيّات أو الثّمانينيّات من القرن المنصرم؛ ومنه أعمال صمويل بيكيت ومارغريت دوراس (Marguerite Duras)، وهما اللّذان ألّفا تحت ما يعرف بـ"المسرح السّردي"، وبقيت أعمالهما تدعى "مسرحيّات" لأنها تعرض أمام مشاهدين، وإن كانت مختلفة عن الشّكل الأرسطي؛ ومن ذلك أن بيكيت ألّف مسرحيّات كثيرة لا تعتمد على الحوار، وتكتفي بصوت واحد يروي الحكاية؛ ولهذا فإنّ الأمر متعلّق بأسلوب صياغة العالم المتخيّل، فإن كان يكتفي بوساطة الرّاوي يكون سرديّا، وإن اعتمد على كلام وأفعال الشّخصيّات يكون دراميّا.
ولعلّ المقارنة التي عقدها ماتييس انجلبيرس بين "الحوار" و"السّرد" توضّح ما نرمي إليه بشكل أفضل؛ فـ"الحوار" – يقول انجلبيرس – يجعل القصة تأخذ شكلها بفضل تواصل الشّخصيّات فيما بينها دون واسطة، وهذا يميّز الشّكل الحواري بـ"الآنية"؛ كما أن هذا التّواصل نفسه هو الذي يحرّك الأحداث ويشرح جوهر الشّخصيّات، أي أنّ الشّخصيّة تشرح جوهرها بفضل الشّخصيّات الأخرى؛ بينما لا تحتاج شخصيّات بيكيت إلى الآخرين كي تقدم حقيقتها.
ولا نعتقد بأن طبيعة مقالنا تسمح لنا بأكثر ممّا قدّمنا، ولكنّنا مع هذا يجب أن نسجّل بأنّ الشّكل الذي يجمع المسرح بالسّرد لا يستدعي تصنيفا أجناسيّا جديدا، لأنه موجود فعلا ومصنّف كما سبق وأوضحنا، وليس يغني شيئا أن نضيف أسماء لا طائل منها، مثلما حدث مع "البويطيقا" التي تعدّدت اصطلاحاتها في الكتابات النقدية العربية، فهي "الشعريّة" وهي "الانشائيّة" وهي "السّرديّة" وهي ما شاء الله من المسمّيات التي لا تضيف سوى الغموض.
متى نقدّم شيئا للانسانيّة؟!
سؤال جلاوجي هذا ينبع من إحساس عميق بالمسؤولية، وهو عنوان لحسّ حضاريّ رفيع، وهو شرح حصيف لـ"الصّدق الفنيّ والفكريّ"، وهو كذلك طموح مشروع لكلّ مبدع ، وينبغي أن يكون هاجس كلّ المبدعين، لأن الإسهام في الجهد الانسانيّ إنّما هو غاية الانسان؛ غير أن واقع الحال لا يكتفي بـ"طفرة إبداعية" كي يقدّم الإضافة المرجوّة، ويحقّق "العالمية" انطلاقا من حارته كما فعل نجيب محفوظ، فالمسألة معقّدة بشكل رهيب على جميع المستويات؛ ومن ذلك أن الأدب العربي – في عمومه – هو منتج الحضارة الكتابية التي أسّس لها عصر التّدوين، ولكنه يعايش - إلى يومنا هذا – شفاهية مختلطة (بتعبير بول زيمتور) لا تسمح للمكتوب سوى بتأثير جزئيّ؛ ناهيك عما تعاني الحاضنة العربية عموما من إشكاليّات حاولنا تحليلها في دراستنا المتعلقة بـ"الانتقال الأجناسي".
بقي علينا أن نشير إلى أن ما أثاره عز الدين جلاوجي من قضايا، يستحقّ مساحات واسعة للنقاش، فالحاجة ماسّة إلى إعادة ترتيب المفاهيم والاشتغال عليها؛ وحتى إن تطلّب الأمر "الانطلاق من الصفر" مثلما فعل رينيه إيتيامبل من قبل، فإنّ الغايات النبيلة تبقى أعلى من كل المصاعب.