الدكتورة راوية يحياوي لـ “الخبر”:

"علينا أن نفكر في مشروع تنظيري ينتبه إلى الناقد المُنصِت، وكيف يتحوّل النقد إلى إبداع على إبداع"

صدر، حديثا للدكتورة راوية يحياوي، الأستاذة بجامعة مولود معمري بتيزي وزو، عن منشورات "ميم"، كتاب جديد بعنوان "الإنصات إلى مختلف الخطابات..رؤى نقدية". تتحدث في هذا الحوار مع "الخبر"، عن أهم الأفكار التي وردت في الكتاب، داعية إلى التفكير في مشروع تنظيري ينتبه إلى الناقد المنصِت، وكيف يتحوّل النقد إلى إبداع على إبداع، معتبرة أنه على الناقد العارف، أن يُصاحب الخطابات في تفاعل، لا استنطاقا وتعنيفا. مستحضرة ما ذهب إليه عبد الفتاح كيليطو، حين قال :" من أجل أن تكون قارئا عليك في لحظة ما أن تتخلص من الأستاذ، وقبل الأستاذ عليك أن تتخلص من المعلّم".


حاورها: حميد عبد القادر


بعد سنوات من الإنصات إلى الخطاب النقدي، ما هي النتيجة التي وصلت إليها؟
الأستاذة الدكتورة راوية يحياوي
الأستاذة الدكتورة راوية يحياوي

في البدء نشير إلى أنّ الوعي بالزمن هو وعي بماهية المعرفة في منعطفاتها المفصلية، وأنّ الخطاب النقدي سيرورة معرفية. وأول نتيجة سأتحدث عنها هي القناعة بأن التفكير داخل هذه السيرورة أمر ضروري بشأن إعادة البناء الإبستيمولوجي لهذا المسار المتراكم برؤية جشطلطية، تعني الشمولية، ثم النظر في عُرى هذه الكُلية، والوقوف عند النقاط المضيئة التي شكلت هذه المنظومة المركّبة. ومع أنّ لهذه النتيجة علاقة بأهمية فهم المشروع النقدي العربي، في جانبه التنظيري، إلاّ أنها العُدّة المعرفية التي تؤطر المسعى من وراء الإنصات إلى مختلف الخطابات، ذاك الإنصات وليس غيره. وما سعيُنا لفهم العقل النقدي العربي إلاّ محاولة منا لاستيعاب الحيثيات المحيطة بمنهج لائق بمصاحبة الخطابات، تلك المصاحبة، لا غيرها، مع أننا نقوّض فكرة المنهج. أما عن النتيجة التي توصلنا إليها ونحن نؤلف كتابنا "الإنصات إلى مختلف الخطابات، رؤى نقدية" فهو استبدال "الناقد" "بالذات المعرفية"، و"النقد" "بالإنصات". وهذا الاستبدال لم يكن جزافاً، بل هو كيمياء الوعي، لأنّ السؤال النقدي سيكون ذكيا عندما يُنصت إلى الخطاب، وينطلق منه أولاً و آخراً. فتغيير المفاهيم هو نتاج الوعي المشّاء بين ما كان وما سيكون، فقد وضّحنا حيثيات هذا المفهوم "الإنصات"، ولماذا اخترناه دون غيره.

ووضحنا أيضا لماذا "الذات المعرفية" بدلاً من "الناقد"؟ وعلينا أن نقف على نتيجة غاية في الأهمية هي نسيان المناهج، وتحويلها إلى طاقة إنصات، حتى نضع حدّا لإنهاك الخطابات، واستنزافها بتطبيقات آلية، تُعَنِّفُها أكثر مما تؤوّل دلالتها. ونعتقد أن تقويض المنهج سيفتح ممكنات لهذا الإنصات، شرط ألاّ يتحوّل إلى فوضى قرائية.
ورد في المقدمة فكرة "موت الناقد" لرونان ماكدونالد"، هل جاء هذا على شكل تبنٍّ؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال نوضح أن النقد الغربي لم يصل إلى هذه الفكرة إلاّ من صيرورات، شكّلت اللحظات المفصلية في حركة النقد، وفي العقل النقدي الغربي؛ ومن أهم هذه اللحظات: من السياق إلى النسق، ثم إلى الأنساق. و ما يميز كل هذا هو التعددية المنهجية، وانفتاح البرامج النقدية وعبورها إلى النقد المعرفي، ثم إلى النقد غير الأكاديمي، الذي يقوّض حكم القيمة، ولم يعُد النقد يصدر من المتخصصين، ففكرة "موت الناقد" عند رونان ماك دونالد هي إشارة رمزية « وموت رمزي، لفقدان الناقد الأكاديمي لمكانته ودوره في الثقافة الأنجلوسكسونية، بعد الثورة الطلابية 1968، وصعود التيارات التي تقوّض كل سلطة، بما في ذلك سلطة الناقد الأكاديمي، المعلم »، فحلّ القارئ غير المتخصص محلّه.
ونحن إذ نسعى إلى إضاءة ما نريده في كتابنا، لا نتبنّى الفكرة بحذافيرها، وإنما نقتنص لحظة موت الناقد الرمزية، دون خلفياتها، لأننا نؤمن بما قاله طه عبد الرحمان في« أن الناقد المسؤول ليس الذي خاض في أي سؤال اتُّفق، ولا ذاك الذي يخوض في كل سؤال خاض فيه غيره، وإنما هو الذي لا يسأل إلا السؤال الذي يلزمه وضعه، ويلزمه الجواب عنه ».
وعندما كنا نتابع حيثيات التحول في العقل النقدي العربي، توصلنا إلى مرحلة ما بعد النقد الأكاديمي الصارم، داخل مركزية المنهج، ورأينا أنّ رهان المرحلة سيكون بتقويض هذه الصرامة، والانفتاح على مختلف الخطابات بطاقة إنصات فاعلة؛ لذا اقترحنا مفهوم "الإنصات". وقد قدمنا خصوصيات هذا المفهوم، وعلينا أن نعي المناخ الجديد الذي يحيا فيه النقد؛ وهو مناخ المعارف المركّبة، والدراسات البينية، وهذا رهان آخر للعقل النقدي العربي. لذا اقترحنا بدلا من مفهوم الناقد مفهوم "الذات المعرفية"، الذي يحرض على أن يغرف من كل هذه المعارف.
ماذا تقصدين بفكرة الإنصات إلى كل الخطابات؟
لسنوات ونحن نتأمل كيف كان الناقد العربي يتعاطى مع النصوص، ويتفاعل معها. واستوقفتنا أهم المراحل، وانتبهنا إلى التطبيق الآلي لبعض المناهج، إلى درجة أن يكون المنهج أكبر من الخطاب، فيغلب الإسقاط. ورأينا أن الخلاص من ذلك كله يكون بالتعويل على نظريات القراءة والتأويل، ثم عبرنا إلى هذا الاقتراح استناداً إلى طاقة هذا المفهوم، فقد رأينا أنّ« النقد نشاط عقلي وفعالية تعمل من أجل وظائف محددة، تغيرت حسب الحقبات، بينما الإنصات هو نشاط عقلي، لأن فيه الانتباه، وفعالية روحية لأنّ المنصِت ينصت بحواسه هو، وبروحه الخاصة، وكأنّ الإنصات سيحوّل النقد إلى إبداع، عندما ينخرط في حواس كل ذات ناقدة ». وعلينا أن نوضح بأن الذات المنصِتة تملك عالَميْن: العالم الخارجي، والعالم الداخلي؛ فالأول وهو المشترَك بين كل المنصتين، وهذا ما ينتج الكينونة المعرفية المشتركة، لزمان ومكان محدديْن. أما العالم الداخلي فهو الذي يمنح للمنصت الخصوصية والبصمة الفردية في إنصاته. وما عملية الإنصات إلاّ تحفيزا للحواس القرائية الملتقطة للخطاب. وهنا نشير إلى إنصاتاتنا المختلفة بحسب اختلافات الخطابات التي أنصتنا إليها في الكتاب الذي صدر لنا.
ما مكانة بول ريكور في التصور الجديد الذي تقدّمينه؟
لا ننكر أن العُدّة المعرفية التي نملكها، ونتحرك من خلالها، نهلَتْ في شق منها من معين بول ريكور، وخاصة في تناوله للخطاب، وفي كون مشروعه يسعى للتأسيس لنظرية في التأويل وفي فلسفة اللغة. واستفدنا كثيرا من العلاقة الجدلية التي وضحها بين الفهم والتفسير، والجدل بين خطاب التأويل وخطاب النص، وجدل المسافة والتملك، ومنها استوحينا العلاقة بين الذات التي أنتجت الخطاب، والذات المنصِتة إلى الخطاب. ولا ننكر أيضا انجذابنا إلى المعرفة المركّبة التي كان يتدرج فيها ريكور، ومختلف الحقول التي شكلت هيرمينوطيقا الارتياب عنده؛ كالفلسفة التأملية الوجودية والفينومينولوجيا، والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا، والبنيوية. واستثمر في أرسطو وأفلاطون، واستدعى ماركس ونيتشه وهابرماس..إلخ. وخلص إلى نظرية التأويل الفلسفية. وهذا العبور علّمنا كيف نعي النقاط المفصلية التي تحوّل الرؤى أثناء صياغة أي مشروع.
تطرحين في الكتاب فكرة "الأنا أرى" ماذا تقصدين بها؟
عندما كنا نتحدث عن طاقات الذات المنصتة وقفنا عند طاقة "مَفْهَمة العالم"، ومساءلة الذات المعرفية للخطاب، ومحاورته له وفق مراحل، إلى جانب طاقة "فهم الشمولية المعرفية" لحركة النقد، باستيعاب المنعطفات الكبرى التي حوّلت الرؤى داخل تاريخ الأفكار. كما وقفنا عند "طاقة الرؤية"، فـ"الأنا أنصت" هو في الوقت نفسه "الأنا أرى"، لذا قلنا في الكتاب:« عندما تنصت الذات وتنخرط في فهم الخطاب، وتمرّ على تلك المراحل التي ذكرتها سابقا، تكون بهذا قد اختارت رؤيتها في مشروعها الإنصاتي، وعندما تعوّل الرؤية على تبئير ما، فهذا يدل على استيعاب للجهة، والحركة داخل تلك الجهة تحتاج إلى وعي عارف، لأن الجهة تتطلب حركة داخل مفاهيم واضحة في شمولية الرؤية ».
"الأنا أرى" هي طاقة الذات المنصتة، استوحينا هذه الصيغة من الكوجيطو الشعري "الأنا أشعر"، ومن الكوجيطو العقلي الديكارتي "الأنا أفكر". وقد تحدث عنهما عبد العزيز بومسهولي في كتابه "الشعر الوجود والزمان، رؤية فلسفية للشعر"، فصغنا الكوجيطو "الأنا أرى"؛ فالذات المنصتة - وهي متوجهة في إنصاتها إلى الخطابات المختلفة، تستند إلى رؤيتها التي تتشكل من حسها وخيالها وذوقها، إلى جانب مرجعياتها المعرفية والثقافية.
ويتميّز "الأنا أرى" بمجموعة من الخصائص؛ منها التعدد، لذا عنْونّا الكتاب بعنوان فرعي هو "رؤى نقدية"، إلى جانب الشمولية والكلية، والتغير عبر الزمن والتحوّل. ومن شروط "الأنا أرى" الوعي الجمالي والذخيرة المتسعة؛ وهذه المفاهيم استعرناها من نظريات القراءة، إلى جانب عدم التجزيئية...إلخ.
الرؤية والخطاب.. هل هذا يعني الابتعاد عن القراءة الإيديولوجية للنص؟
التخلص من الإيديولوجيات كان ضروريا، داخل كل اللحظات المفصلية في تحوّل الدرس النقدي الغربي، كأن نأخذ مرحلة موت المؤلف كعيّنة، وكان السخط من تحوّل النقد إلى نسخ مكررة آمنت بنظرية الانعكاس، اقتنعت بواقعية الأدب، وكان السياق مركزيا. إلاّ أنّ السؤال المطروح هو: هل هذه المرحلة المفصلية التي غيّرت النقد، وقلبت موازينه تخلّصت فعلاً من الإيديولوجيا؟ أم أنها تخفي مرجعيات هي في حد ذاتها إيديولوجيا؟ وما مركزية النص إلا مركزية الكيان الأوربي.
وعندما تحوّل النقد إلى نظريات القراءة والتأويل، حاول أن يتخلص من مرجعيات كثيرة، إلاّ أنه وقع في مركزية المتلقي، فالإيديولوجيا لم تغب حتى عند أهم المنعطفات التي شكلت الشمولية النقدية. أما عن الرؤية والخطاب فنعتقد أن العلاقة بينهما فغاية في الأهمية، لأنّ الخطاب هو الذي يُملي على الرؤية أن تنظر من جهة دون أخرى، إلاّ أن السؤال المطروح هو: إلى أي حد تستطيع هذه الرؤية أن تتخلص من إيديولوجيا الذات؟ وهل تستطيع ذلك فعلاً؟
لقد وردت في كتابنا رؤى كثيرة، وبجهات نظر متغايرة، لأن الخطابات (المنطلق) هي أيضاً متنوعة: الخطاب الشعري، والخطاب الروائي، والخطاب النقدي، و وقفنا في بيان الإنصات عند تشكُّل الإنصات الخاص، وكيف يكون المنصت في دينامية مع عالمه الخاص، وبصمته القرائية، وهنا يمكن للإيديولوجيا أن تتسرب، لكن المنصِت العارف سيتملص منها. ويبقى رهان الرؤية الجيدة يشتغل على أن ينصت إلى الخطاب بمعزل عن كل الشوائب.
على ضوء ما سبق، ما هي وظيفة الناقد الآن؟
هذا سؤال كبير ومتشعب، يمكننا أن نتناول فيه الشق الذي طرحناه في كتاب "الإنصات إلى مختلف الخطابات" وهو : كيف يصبح النقد فنّاً للإنصات؟ والإنصات فعالية إنتاجية تقيّم وتقوّم الخطاب. وعلى الناقد العارف أن يصاحب الخطابات في تفاعل، لا استنطاق وتعنيف، وهنا نستند إلى ما ذهب إليه عبد الفتاح كيليطو« من أجل أن تكون قارئا عليك في لحظة ما أن تتخلص من الأستاذ، وقبل الأستاذ عليك أن تتخلص من المعلّم(...) صورة المعلّم كما نفهمها بالمعنى الرمزي الفرويدي ». وبهذا يعود فن التذوق واستقبال الخطابات ظاهراتياً.
نشير إلى أن هذا السؤال طرحته النُخب في الجامعات العالمية، وفي فرق البحث داخل المخابر، وخاصة من خلال سؤالها بشأن مستقبل الدراسات الأدبية. وحتى نتجاوز نحن الإفلاس النقدي، ونعيد للنقد ألَقَه، علينا أن نفكر في مشروع تنظيري ينتبه إلى الناقد المنصِت، وكيف يتحوّل النقد إلى إبداع على إبداع، ويتجاوز التمارين التي يسقطها على الخطابات، ويتحوّل النقد آنذاك إلى طاقة إبداعية، تستوعب وتستثمر التخصصات البيْنيّة في زمن المعرفة المركّبة.
وفي الأخير نشير إلى أننا تحدثنا بصيغة الجمع، لأننا تحركنا داخل تاريخ الأفكار الذي هو مِلْك الجماعة خارج الذات في بُعدها الأنَويّ الفج.
ح ع