الدكتور محمد كاديك لـ”الخبر”

يوجد خلط بين "المفارقة" و"السخرية" في الدّراسات التي تتناول "الرواية"

يتحدّث الدكتور محمد كاديك في هذا الحوار مع "الخبر" عن كتابه الصادر حديثا عن "منشورات ميم" بعنوان: "سؤال السخرية وأدوات الكتابة السّاخرة" موضحا أنّ ظاهرة الخاط بين مفهومي "المفارقة" و"السخرية" ما زالت متواصلة إلى يومنا هذا في مختلف الدّراسات التي تتعرّض إلى "الرواية".

حاوره: حميد عبد القادر


منذ البدء تخبرنا أن ثقافتنا العربية تُجمع على الرّبط بين "الفكاهيّ" و"السَّاخر"، وتتعامل معهما على أنّهما نوع واحد، كيف حصل ذلك؟

محمد كاديك
محمد كاديك
حميد عبد القادر
حميد عبد القادر

صحيح.. وهذه مشكلة أجناسيّة، وهي نتيجة طبيعيّة لغموض القواعد المفاهيميّة المؤسّسة للنّقد الأدبيّ بالحاضنة اللّغويّة العربيّة، فقد جرت العادة – في معظم الدّراسات النّقديّة العربيّة -على الرّبط بين "الفكاهيّ" و"السّاخر" بأساليب تجعل منهما نوعا واحدا، ويتواصل هذا الخلط بين المفهومين رغما عمّا توصّل إليه فلاسفة القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر من تمييز بينهما، ورغما عن الدّراسات التي منحت "السّخرية" طابعها الشّامل المتجاوز لإمكانات "الفكاهة"، فـ"التّهكم السّقراطيّ" و"السّخريّة الرّومانسيّة" – مثلا - لا يحتملان أيّ وجه من أوجه الهزل، بل إنّهما - بطبيعتهما  - أبعدُ من أن يعتريهما أيّ ملمح يدلّ على أريحيّة "الفكاهة".. تحدثنا إذن عن غموض القواعد المفاهيميّة المؤسّسة، وهذا غموض نردّه – وفق ما ثبت لنا غير مرّة – إلى "البداهة" التي تقدّم بها المفاهيم نفسها، ومن ذلك أنّ مفهوم "السّخريّة" يقدّم نفسه واضحا بديهيا ولا يحتاج إلى أيّ تمحيص أو نظر، فالنّاس جميعا يتداولونه في يومياتهم بطريقة عادية للغاية، إلى درجة أنه يبدو محدّدا بأسلوب محكم، مع أنّه في الدّراسات النّقديّة لا يكاد يقدّم شيئا، بل إنّه يتسبب في اصطناع كثير من المغالطات، ويحجب كثيرا من الحقائق، ويحرم العمل النّقدي من أداء وظيفته في المشهد الأدبيّ العام، وهنا أضرب مثلا بـ"الرواية"، فهذه تمثّل جنسا أدبيّا يعتمد أساسا على مفهوم "السّخريّة"، ولكنّ الرواية بالضّفة العربيّة – عموما - لا تستغلّه كما ينبغي استغلاله بسبب الغموض الذي يعتريه، والخلط الذي يشوبه.. طبعا، هذا لا يمنع أن تكون لدينا أعمال روائية عظيمة، ولكنّنا لا يمكن – بأيّة حال – أن نصف هذه الأعمال العظيمة بأنّها واعية بنوعها الأجناسيّ، فهي تعتمد على "المحاكاة" المحض، ولا ترقى بالإبداع إلاّ إلى مستواه العادي، تماما مثلما هي حال العصافير.. تغرّد بأجمل الألحان دون أن تعرف السّلم الموسيقي..

 تعود في بحثك  إلى المحاورات السّقراطية والأهجية المينيبية، وهما معا يمثّلان أشكالا "كرنفاليّة" كما وصفهما ميخائيل باختين، وانتهى بهما إلى "الهزليّ ـ الجاد" في أعمال فرانسوا رابليه ، هل الأدب الغربي الحديث ولد من هذه اللحظة؟

سؤال السخرية وأدوات الكتابة الساخرة

ملاحظة غاية في الأهميّة، وكان ينبغي أن تكون البداية من المحاورات السّقراطية، ذلك لأن مفهوم "السّخريّة" (Ironie) تحوّل إلى منهج واضح في الحوار السّقراطي حتى وإن لم يكن قد اكتسب اسمه، فلفظ (آيرونيا) في اللاتينية كان صفة دونيّة أُطلقت على سقراط سخريّة منه، ذلك أنّه في منهجه التّوليدي، لم يكن يجيب على الأسئلة مطلقا، وإنما يقدّم نفسه في صورة المتعلّم، أي أنّه كان يحرص على قلب الأدوار مع محاوره ليستخرج منه - في الأخير - ما يناقض طرحه الأوّل، ولكن المفهوم بقي على مستوى "الحضور" دون تحديد واضح، وكان عليه أن ينتظر أرسطو كي يؤسّس له في حقل البلاغة ويمنحه اسمه الذي يدلّ عليه.. أمّا "المنيبي" (الأهجية)، فقد كانت معروفة، واستفادت من تحديد مفهوم "السّخريّة" مع أرسطو لأنها تشتغل بنفس الآليات تقريبا، كأن تقول شيئا وهي تقصد إلى ضدّه.. فإذا جئنا إلى ميخائيل باختين، وجدناه يتحدث عن هذين الشّكلين، ويصفهما بأنهما من الأشكال الكرنفاليّة، وهو طبعا، يستعير صورة الكرنفال بما هو احتفالية "نقديّة" تعوّدت على وضع البهلوان مكان الملك، وقصد باختين من وراء ذلك إلى توضيح المعاني المجرّدة للمفاهيم التي كانت تشتغل وفقها الرّواية، فـ"الكرنفال"  لا يمثل  أصلا جينيالوجيا لـ"الرّواية"، وإنّما هو وصف لـ"لغة الأدب" التي تتطابق مع روح الكرنفال، وتستلهم منه، وعلى هذا، تكون "الكرنفالية" أو "التّشكيل الكرنفالي"  في "الرّواية" شرحا للبعد السّاخر الذي تتمأسس عليه الأعمال الرّوائيّة، وهذا ما استخرجه باختين من أعمال دوستويفسكي ومن أعمال فرانسوا رابليه الذي اعتمد أسلوبا مختلفا عمّا تعوّد الناس عليه في الملاحم وأناشيد المآثر وروايات الفرسان، وذلك من خلال أسلوب يجمع بين الهزل والجدّ في الوقت نفسه، تماما مثلما فعل سيرفانتيس في "دون كيشوت" وهو يسخر من معنى "الفروسية" المهمين على عصره.. فهل يمكن أن نعتبر هذه اللحظة انبثاقا للأدب الغربي الحديث؟!.. نعم هي كذلك، ولكنّ هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الأدب الغربي كانت تتويجا لسيرورة تاريخيّة من الانتقالات تحركت أوّل مرة مع السّكولائية، وكان ينبغي لها أن تتجذّر أكثر انطلاقا من عصر النّهضة، ذلك أن مفهوم "السّخرية" كان يشتغل حصرا في حقل البلاغة لا يتجاوزه، إلى أن جاءه فريديريش اشليغل في القرن الثّامن عشر، ووجد له القراءة الأولى التي فتحت أمامه آفاق الأدب والفلسفة معا.

هذا يجعلنا نصل إلى والاس مارتان، في كتاب "نظريات السّرد الحديثة"، الذي يعتبر انتقال أوروبا من القرون الوسطى إلى القرن العشرين، نظيرا للانتقال من "الأسطورة" إلى "السّخرية"؛ كيف تجلى ذلك؟

هو كذلك، ولقد عرف مارتان كيف يلخّص سيرورات انتقالية مهمّة في هذه العبارة، فالانتقال كان من "الأسطورة" التي تمثّلها الأعمال الملحميّة، وتعتمد في بنياتها على الماضي المطلق وتصطنع الأبطال الخارقين، وانتهى إلى "الرّواية" بما هي شكلٌ نقديّ خالص يناقض التّبجيل الذي يتأسس عليه الفكر الملحمي، فقد توفّر لـ"الرواية" مفهوما "الفردانيّة" و"الأصالة"، كما توفّرت لها أسباب القراءة الصّامتة، وهذا يعبّر، أوّلا، عن انتقال إلى مفهوم "الفرد" الذي يحسّ بخاصّة نفسه ولا يتلاشى في الجماعة، ثمّ يعبر عن انتقال على المستوى الحضاري، من الشّفاهية إلى الكتابية، ولقد ازدادت "الرّواية" رسوخا في ساحة الأدب مع توفّر مفهوم "السّخرية" الذي سمح لها بالتّمرّد على المركزيّات الاجتماعيّة والثّقافيّة، والابتعاد عن مناطق "التّبجيل"، وفتح المجال لـ"التّدنيس" على حساب "التّقديس"، وهدم "المسافة الملحميّة" - التي كان ضمانها الماضي المطلق - من خلال ملامسة "الحاضر" و"المعيش"، ومنح "البطولة" معنى لا يمكن أن تعرفه "الملحمة".

 وهل هذا الانتقال مرتبط بالخروج من عصر النهضة، وبداية حضور الإنسان كفاعل في محيطه الثقافي؟

نقول إن عصر النهضة يمثّل لحظة مهمّة من لحظات السيرورة الانتقالية - في عمومها – من "القبيلة" إلى "الفرد"، ومن "الشّفاهية" إلى "الكتابية" ومن أشكال السّرد الشّعري إلى أشكاله النّثرية، وكل هذا تمّ وفق مسار تطوّر تاريخي، وعلى هذا، يمكن القول بأنّ الشّكل الرّوائي الحديث تمأسس في مرحلة العمل على التّحرير العام للانسانيّة المتأهبة للخروج من ربقة الاستعباد الاجتماعي والأيديولوجي المفروض بالاقتصاد والسّياسة والثّقافة الإقطاعيّة.. ظروف التحرير هاته إذن، أنتجت "الواقعيّة الخياليّة" بما هي الأسلوب الخاص بـ"الرّواية". وهو ما يردّه لوكاش  إلى عاملين اثنين: الأول، إدراك الرّوائيين للقوى الكبرى التي كانت سائدة، والثّاني المقارنة السّاخرة بين العالم القديم والعالم الجديد الّذي كان في حالة مخاض مع مبادئ المعركة الكبرى لأجل تحرير الانسان.. وواضح أن تحرير الانسان يعني -بالدّرجة الأولى – منحه الفاعلية أو الدّينامية في محيطه الثّقافي، ولهذا كله، نقدّر أن بقاء مفهوم "السّخرية" في حكم الغموض بالحاضنة اللّغوية العربيّة، يحرم "الرواية" من الوعي بنوعها الأجناسي، ويحرمها بالتّالي من أداء وظيفتها التي ينبغي أن تؤديها.

 تقول إنّ الثّقافة العربية عرفت خلطا بين المفارقة و السّخرية، واستمر هذا طويلا، كيف حدث ذلك؟

الخلط بين مفهومي "المفارقة" و"السّخرية" ما يزال متواصلا إلى يومنا هذا في مختلف الدّراسات التي تتعرض إلى "الرّواية"، وكثيرا ما تجد الباحثين يجتهدون في البحث عن "المفارقة" في "الرّواية" بناء على المفاهيم المغالطة التي اكتسحت السّاحة النّقدية، فهم يقصدون إلى البحث عن عمود السّخرية الذي يتأسس عليه العمل الرّوائيّ في الحقيقة، ولكنهم يصطلحون بـ"المفارقة" بناء على خطأ بسيط في الترجمة ورد بمقال للأستاذة نبيلة إبراهيم في مجلة "فصول" عام 1988، فقد تحدثت عن Ironie على أساس أنها ترجمة "مفارقة"، ووقعت في إشكاليات لا يمكن تبيُّنها بسهولة، وعمّق هذه المغالطة ترجمات أعمال دوغلاس ميويك التي اعتمدت مصطلح "المفارقة"، مما أوقع مفهوم "السّخريّة" في إشكالية مزدوجة، فقد احتفظ – في اللغة العربية - بالمعنى العامّي الذي لا يقترب حتى من الشّروح التي خصّصها له البلاغيون واللّغويون العرب القدماء من جهة، وتلاشى – من جهة أخرى - تحت وطأة المصطلح الذي ألصق بتعريفاته، وعمّق هذه المشكلة أن فريديريش اشليغل وصف "السّخرية" بأنّها "شكلُ المفارقة"، وهذا وصف حصيف طيعا، ولكنه تحوّل إلى مبرّر قويّ للترجمة الخاطئة، فانتشرت فكرة البحث عن المفارقة في الأعمال الرّوائية، وتمأسست المغالطة إلى درجة أنّ الدّارس الذي يدرك جيدا الفرق بين "السّخرية" و"المفارقة"، صار يعقد المقارنة بين مفهوم "السّخرية" ومفهوم "المفارقة"، دون أن ينتبه إلى أنّه يقارن بين تعريفات مفهوم السّخرية وحده، معتقد أنه يعرض مفهوم المفارقة..

هناك مشكلة أخرى، وهي المعنى العاميّ لـ"المفارقة" الذي جعل منها "التناقض"، وهي في حقيقتها ليست تناقضا، فـ"المفارقة" هي ما يجمع قضيّتين اثنتين صحيحتين، كل واحدة منهما تنفي الأخرى، بينما تحرص "السّخرية" على الإخفاء مع تقديم الأدوات التي تشرح ما تخفيه، وقد تعرّضنا إلى هذا في كتاب "سؤال السّخرية" أملا في التّخلص من هذا المأزق المفهومي الذي يهيمن على الدّراسات النّقدية..

ما يفرّق "الفكاهة" و"الهجاء" عن "السّخريّة"؟

علاقة القرابة بين "السّخرية" و"الفكاهة" لصيقة جدّا، ولكنهما مختلفان اختلافا جذريا، ولقد تنبّه هنري برغسون إلى هذا في كتابه الشهير، فركّز  على ربط ظاهرة الضّحك بـ"المثل الاجتماعيّة" و"المثل الأخلاقيّة"، وذهب إلى أن "الضّحك" ينشأ حين تتحقّق حالة الانسجام العامة، وبما أن وسائل الإضحاك متعدّدة، ومنها عرض شيء محترم في شكل مبتذل، أو العكس، فإن برغسون افترض أنّ مجموع وسائل الإضحاك تتمثّل في التّعارض بين ما هو واقعي وما هو مثاليّ، أي بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون، وهذا المحور هو الّذي يتحمّل النّقل في اتجاهين معاكسين، فإذا كان التلفّظ بـ"ما ينبغي أن يكون"، مع التّظاهر بأنه "الكائن فعلا": هنا تكون "سخريّة"؛ أمّا إذا كان الوصف دقيقا مفصّلا لما هو "كائن"، مع إظهار الاعتقاد بأنه "ما ينبغي أن يكون"، فهذا هو الإجراء الذي تعتمده "الفكاهة"..

أمّا "الهجاء"، فالتعامل معه يقتضي كثيرا من الدقّة، إذ ينبغي أن ننظر فيه من خلال تراتبية الأنواع السّاخرة، ذلك لأنه هو الآخر من المفاهيم المجاورة لمفهوم السّخرية بما هو الاسم الجامع للأنواع، ولا نعتمد في هذا تراتبية بعينها، سواء تراتبية دوغلاس ميويك أو تراتبية كلايسون بوث، فالتّصنيفات كثيرة، ولكن يمكننا – وفق فلاديمير يانكيليفيتش – أن نحدّد الاختلافات بين الأنواع السّاخرة عموما من خلال طبيعة الوعي، فـ"السخرية" لا تنتج إلا عن "وعي سليم" أو "وعي فاسد"، وإذا قارنّا بين "التهكّم" مثلا، و"الهجاء"، فإنّنا سنجد حتما اختلافا في الأدوات والآليات والوظائف..

أريد فقد – أستاذ حميد – أن أغتنم هذه الفرصة لأقول إن كتاب "سؤال السّخرية" المتواضع، جاء بعد مائة عام تقريبا من اشتغال محمد بن شنب على شعر أبي دلامة، ليُخرج، لأول مرة في التاريخ، الشّكل السّاخر من أبواب الفكاهة والنّوادر في أعمال الإخباريين العرب، إلى عمل أكاديمي محكم، لهذا، كان لزاما علينا أن نرفع عملنا إلى محمد بن شنب، اعترافا بفضله، وتذكيرا بجهود الجزائريين في مختلف الحقول المعرفيّة.


نشر الحوار بجريدة "الخبر"، العدد 9793 ليوم 08 فيفري 2021 م الموافق لـ15 جمادى الثانية 1442 هـ