تأويل النص الشعري .. شعر المتنبي نموذجاً

تهدف دراسة د. عبدالله حلمي علي المعنونة ” تأويل النص الشعري ..شعر المتنبي نموذجاً”لى بيان قضايا التأويل عند شراح نص المتنبي من خلال شرحي ابن جني (النسر الكبير والصغير)، باعتباره المتلقي الأول لشعر المتنبي، وكل القراءات التي جاءت بعد ذلك هي تطوير لما جاء به، وكونت نصاً جامعاً تنظمه علاقة التكامل والتوسيع، لا علاقة التنافر والتضاد.

 في البداية، يطرح الباحث تساؤلاً وهو: ما سر الاهتمام بالمتنبي قديماً وحديثاً؟ ويجيب: تراوحت إجابة الدارسين في تفسير هذه الظاهرة بحسب اختلاف زوايا النظر المنهجية، وإن كانت تجمع على أن عوامل خلود المتنبي تتجلى في وفرة عقله، وقدرته البيانية على أداء المشاعر، والتقاط كل ما يجول في ضمائر الناس، فإذا ما تأملنا تعليقات النقاد المحدثين نرى أنهم كادوا ينفقون على عوامل استمرارية المتنبي وتتجلى فيه ظواهر فنية عدة أهمها: مفهوم القوة، التضاد بين الشراح، الترادف بين الشراح، وأخيراً الاشتراك اللفظي بين الشراح.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

وينقلنا المؤلف إلى التأويل النحوي بين الشراح، قائلاً: شهد ميدان الدرس النحوي منذ فجره الأول ظهور فريقين مختلفين في منهجيهما في معالجة قضايا النحو العربي، أحدهما بصري والآخر كوفي، ودار الاختلاف بين المذهبين حول المصطلحات النحوية، فكانت ثمة مصطلحات بصرية، وثانية كوفية، وثالثة مشتركة بينهما.

ويشير الباحث إلى تأويلات ابن جني لشعر المتنبي، قائلاً: من هذه التأويلات التأويل النحوي الغامض البعيد، قال المتنبي:

وأكثر ما تلقى أبا المسك بذلة .. إذا لم تصن إلا الحديد ثياب

فابن جني جعل الاستثناء هنا مفرغاً، أي أن الحديد مفعول به والصون للثياب لا للحديد، والمعنى لا يصح على هذا وإنما يصح كما قال العروضي بأن يكون الصون للحديد لا للثياب، وذلك يكون الحديد مستثنى مقدماً والمستثنى منه محذوفاً لأنه مفهوم، وتقديره: (إذا لم يصن البدن إلا الحديد ثياب)، وهذا مثل قول الكميت ومالي إلا آل أحمد شيعة:

ومالي إلا آل مذهب الحق مذهب

ويذكر الباحث: ومن المفاهيم التي سخرها شراح المتنبي لتأويل الظواهر النحوية القياس على القليل أو الشاذ والإجماع والتعليل والسماع، والاختلاف حول قراءة البيت الشعري عند المتنبي. فهناك جواز حذف مرجع الضمير، كما في قول المتنبي:

وإن الذي حابى جديلة طيئ .. به الله يعطي ما يشاء ويمنع

قال أبو الفتح حابى بمعنى حبا مأخوذ من الحباء وهو العطية واسم الله مرفوع به والجملة التي هي يعطي فاعله خبر إن واسم إن الذي.

وقال ابن الشجري: فعلى هذا يكون فاعل حابى مضمراً فيه يعود على الذي، واسم الله مرتفع بالابتداء وخبره الجملة تقديره إن الذي حابى به جديلة في الحباء الله يعطي به من يشاء، ومفعول يمنع محذوف دل عليه مفعول يعطي وكذلك مفعول يشاء المذكور والمحذوفان تقديرهم يعطي الله به من يشاء أن يعطيه ويمنع من يشاء أن يمنعه والضميران يعودان للممدوح.

ويذكر الباحث: ينصب النداء النكرة بفعل مضمر كما في قول المتنبي:

أيا أسداً في جسمه روح ضيغم .. وكم أسد أرواحهن كلاب

ذكر ابن عدلان الموصلي في التبيان: أيا أسداً هو نداء منكر ينتصب بفعل مضمر ولو رفع ونون لكان أجود لأنه خصصه. والنكرات إذا خصصت كان حكمها في النداء كحكم المفرد العلم قال الله تعالى “يا جبال أوبي معه” فلما خصصها بالنداء كان حكمها حكم العلم المفرد. واختلف البصريون والكوفيون في المنادى، فقال البصريون هو مبني على الضم وموضعه النصب لأنه مفعول.

ويذكر الباحث: اختلف الشراح حول رواية أبيات المتنبي جاء في قوله:

وكيف تقصر عن غاية .. وأمك من ليثها مشبل

قال ابن عدلان: الرواية الصحيحة التي قرأنا بها الديوان على الشيخين أبي الحرم مكي وأبي محمد عبد المنعم من ليثها جاراً ومجروراً، وهو متعلق باسم الفاعل الذي هو خبر الابتداء وروى من ليثها بالرفع وفتح ميم من وهو عبارة عن الأم وهو خبر الابتداء وما بعده صلة له.

وقال الواحدي: روى ابن دوست عن غابة بالباء الموحدة وهي تصحيف إنما يقال قصر عن الغاية إذا لم يبلغها لا عن الغابة.

وجاء أيضاً في قوله:

وليس كبحر الماء يشتق قعره .. إلى حيث يفني الماء حوت وضفدع

قال ابن عدلان: الرواية الصحيحة الماء بالرفع وهي فاعل يفنى.

قال ابن القطاع: يفنى الماء بالنصب، أي يتخذه فناء يقال فنيت المكان وبالمكان إذا أقمت به والفعلان على رواية ابن القطاع من يشتق ويفنى للحوت والضفدع.

وفي الخاتمة، يرى الباحث أن معظم النقد الذي وجه لابن جني كان فيه كثير من التجني على هذا الرجل الذي وقف مجرد عثرة يدافع عن المتنبي وعن خروقاته اللغوية، وأنها لم تكن تخالف العرف اللغوي ولا الصناعة اللغوية آنذاك، ولكن المشكلة تكمن في أن أساسيات وأدوات النقد التي توفرت في تلك الفترة لم تكن بالقدر الكافي الذي يستوعب شعر شاعر كبير كالمتنبي، فالبعض اتهمه بالخروج، والبعض الآخر اتهمه بالسرقة، إضافة إلى أن الأحداث السياسية والفكر المذهبي لعبا دوراً في قراءة نص المتنبي.

الجدير بالاشارة أن كتاب ” تأويل النص الشعري ..شعر المتنبي نموذجاً ” لمؤلفه د. عبدالله حلمي علي ، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ويقع في نحو417 صفحة من القطع الكبير .