بحث في فائدة "مفاهيم" تائهة..
ليس من ينكر على عبد الله العروي أنه من أكابر المفكّرين العرب، وليس من يتجاهل إسهامه الكبير في التأسيس لكثير من المفاهيم التي ظلّت تراوح مكانها دون أن تجد شروحا وافية ضمن النّسق العربي، ولكن موقفه المتعلّق بالمسار المقترح لـ"تطوير اللّغة العربية"، كما قدمه الباحث ابراهيم حريري على صفحات "الخبر" الغراء (عدد 8272)، لا يبدو ـ في نظرنا ـ متناسقا منهجيا، ولا متّسقا معرفيا، وإنما توجّه وفق ما تقتضي الأنماط التي أسّست لها مغالطات ما يسمى "عصر النهضة" وثنائياته التي لم تتمكّن من إنتاج ما يفيد فكرة "التّطوير" أو "التّحديث"..
كتب: محمد كاديك

ولقد أحسن ابراهيم حريري، في فاتحة مقاله، حين اعترف بأنه "ليس مؤهّلا" لشرح مذهب عبد الله العروي في "تطوير اللّغة العربية"، مثلما أحسن في تقديم صورة مجملة عن الفريقين اللّذين يتنازعان الحقّ في احتكار "اللغة" وصوّرهما على أنّهما: "المحافظون" «الذين ينظرون إلى اللّغة العربية على أنها لغة مقدّسة، كاملة وناجزة ولا يقبلون تطوّرها كأية لغة حيّة»؛ ثم "دعاة التّدريج أو التلهيج"، وهؤلاء «يشجّعون على استعمال الدّوارج المحليّة (…) حتى يتسنّى لهم كسب مزيد من الأنصار وإلحاقهم بركب "الليبراليين الجدد"»؛ وهو ما اعتبره حريري «مشروعا سياسيا يركب اللّغة باعتبارها معطى إيديولوجيا (فكرويا) لا باعتبارها معطى حضاريا».
ولسنا نعرف إن كان الحديث عن فريقين اثنين يصارعان لأجل "احتكار" اللّغة، صحيحا، فالفريقان، منذ ظهورهما في أوائل ما يسمى "عصر النّهضة"، لم يقدما أكثر من صور مقلوبة، كمثل تلك التي تنعكس على سطح المرآة؛ فالفريق الذي يسمى نفسه "محافظا"، لا يختلف في شيء عن الفريق الذي يدّعي "العلمنة"، وهما يشتركان في المنهج وأسلوب الطرح ووسائل الشّرح، بل إنهما معا ينتجان نفس "التّطرف"، ويعالجان الإشكاليّات المطروحة بنفس التّسطيح، ولا يختلفان في ضيق الأفق والالتزام بوجهة النّظر الأيديولوجية حتى حين تقوم الحجة العلميّة ظاهرة؛ فـ"الثّوابت العقلية " ـ كما يرى محمد عابد الجابري ـ لم تتغيّر في الثّقافة العربيّة منذ الجاهليّة إلى اليوم؛ ولم يكن من منتج لما يوصف بـ"عصر النّهضة" سوى "أصالة" بدون تحديد، و"حداثة" لا تقلّ ضبابيّة وغموضا عن مفهوم "الأصالة"، تماما مثلما وصفهما فيصل درّاج؛ وعلى هذا ينبغي أن نوضّح بأن وصف ابراهيم حريري لحقل "تطوير اللّغة العربية" بأنه «مليء بالألغام» إنما هو تحصيل حاصل لـ"احتكار لغوي"، فرضته أيديولوجيات تتقنع بـ"المعرفة"، وتلبس لبوس الحجاج المنطقي؛ وظاهر أن الحقل المعرفي أعلى من أن يكون ملغّما، و"المجازفة" فيه لا تعدو مادة الحرص على التوثيق، وتحرّي الاقتراب من الحقيقة بعيدا عن أسلوب تأصيل النّتيجة المسبقة.
وقبل أن نفيض في مناقشة مقال حريري، نريد أن نشير إلى أنّ فكرة "التخلي عن المثنى في اللّغة العربية" على أساس أنها من مقتضيات التّطوير، بلغتنا منذ حوالي أربع سنوات أو يزيد، ولم نعرها انتباها، لأن من نشرها حينذاك لم يكن ممن يتقنون "العربية"، لذلك اعتبرناها مجرد شكوى عارضة، لا تأسيسا لرؤية؛ ولكن الفكرة حين تبزغ من مفكّر كبير كمثل عبد الله العروي، لا تترك مجالا للشكّ بأنها تبحث عن تأسيس علمي، كي تفرض نفسها أمرا واقعا، وعلى هذا ، فهي تفرض النّقاش المعمّق، لا مجرد مرور الكرام..
حكاية "المثنى" واستراتيجيات "التبسيط"..
لم يسبق لكاتب ولا قارئ أن وجد صعوبة في "المثنى"، ولم تطرح "التثنية" كعائق في الفضاء العربي كتابةً ولا قراءةً، ولقد هالنا أن نجد عبد الله العروي ـ وفق مقال حريري ـ يقارن بين "اللغة العربية" وما يصفه بـ"اللّغات الحيّة" التي تعتبر ما زاد عن الواحد "جمعا"، ثم يقترح أن «تسير العربية على ذات النهج (نهج اللّغات الحيّة) إذا أرادت التبسيط والتطوّر»، ونعترف بأننا لم نفهم كيف يمكن أن يتأسّس هذا "التّطور" بمجرد "حذف المثنى" من الكلام، بل لم نفهم مطلقا ما يجعل "المثنى" عائقا أمام "التطوّر".
ولقد اعترف حريري بأن الشّعر العربي لا يسعف التوجّه نحو إلغاء "المثنى" من اللغة، واعتبار الاثنين جمعا، ولكنه وقف على ما انتبه إليه مفسرو القرآن الكريم من انتقال من المثنى إلى الجمع في الآية 36 من سورة البقرة، ونقل كثيرا من أقوال المفسرين لا نرى حاجة في نقلها هنا، ولا حتى في مناقشتها، فالآية واضحة جليّة، والفعل "أزلهما" متعلق بالمخاطبيْن آدم وزوجه، بينما يتعلق الفعل "اهبطوا" بثالث معهما، وهو معروف؛ ثم إن سياق الآية لا يترك مجالا للشكّ في ذلك؛ وفوق هذا، تأتي الشّواهد القرآنية التي تستعمل المثنى، وهي كثيرة لا تنقص، فإن رأى العروي أن «القرآن يعطينا الإمكانية لاستعمال الجمع في حق المثنى»، فإننا نستطيع أن نخبره بأن الأمر ليس متعلقا بالتوجّه نحو إلغاء المثنى، وإنما هي صياغة لها آفاق أخرى ليس هذا مجال الخوض فيها، ولكننا سنكتفي بشاهد مما لم يسعف مقترح إلغاء المثنى، بل هو يعاكس المقترح و"يستعمل المثنى في حق الجمع"، ومنه خطاب امرئ القيس في معلّقته إلى اثنين: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» ليأتي في البيت الذي بعده ويتحدّث عن الجماعة قائلا: «وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم»؛ وظاهر أن "المثنى" و"الجمع" هنا إنما جاءا لغايات مختلفة تماما عما يتوسم حريري والعروي معا.
وقد يكون سؤال "المثنى" ـ كما جاء به حريري ـ بسيطا، ولكن سؤال "الحروف العربية" الذي أثاره يحتاج إلى نظر أعمق، فهو يطرح إشكالية "اللّغات" في "العربيّة"، ولكنه يطرحها بشكلها التقليدي ضمن الإطار الأيديولوجي، ولا يتجاوز ذلك، بل يكرّر نفس المغالطات التي تأسست في المخيال العام على أنها حقائق ثابتة، رغم تناقض أخبارها في كتب التراث العربي؛ فهو حين يقول إن «اللغة العربية صارت ترفض المدينة وتبحث عن نقاوتها في الصّحراء» إنما يستند إلى جمهور من الرواة تحدثوا عن رحلاتهم إلى البوادي من أجل "جمع اللغة"، وهذه مسألة تأشكلت في السياق الأيديولوجي الذي اصطنعه ما يسمى "عصر النهضة"، وكانت ـ ولا تزال ـ من الثنائيات العضال التي لا يمكن البتّ لصالح واحدة منهما، لأن الأرضية الأيديولوجية تحجب رؤية التناقض الصّارخ الذي تتأسس عليه الروايات التّاريخية، فإذا كان أولئك الذين "رسّموا اللّغة العربيّة" منذ بداية عصر التّدوين (بتعبير حريري)، يقرّون بأنهم اختاروا البادية حرصا على "نقاء اللغة"، فإنهم هم أنفسهم من يصفون في كتبهم "كلام البدو" بأنه "رطانة لا تشبه العربية" كما ينقل القلقشندي وغيره.
حاصل الحال إذن، أن طرح عبد الله العروي بخصوص "المثنى" جاء عامّا وسطحيّا، ولم يستند إلا إلى ما يتوسم أنه "لغات حيّة" لا تستعمل "المثنى"، وينبغي أن تسير "اللّغة العربيّة" على منواله؛ مع أنه لم يعد إلى أصل هذه اللّغات الحيّة، ولم يتساءل إن كانت اللاتينية قد استعملت "المثنى"، وهل تطوّرت (اللّغات الحية) لأنها حذفت "المثنى" أم أن هناك عوامل أخرى سيّرت ما نصفه بـ"التطوّر" وتحكّمت فيه؟ ثم.. ما المقصود بـ"اللّغات الحيّة"؟! هل هي اللّغات المعتمدة في هيئة الأمم المتحدة أم هي اللّغات التي تستعملها كثير من الشّعوب؟! من يدري.. قد تكون لغات الهيمنة.. ولكن.. كيف تهيمن اللّغة؟! هل يكفيها "قرار أممي" أو اعتراف من منظمة عالمية؟! أم أن مجرّد حذف المثنى قد يجبر الجميع على الانصياع، والتعامل مع اللغة على أنها "حيّة" ترزق..
من زاوية أخرى.. هناك سؤال غاية في الأهمية يلحّ علينا الآن.. ما الذي يجعل "المثنّى" في اللّغة نقيصة ومانعا عن التّطوّر؟! لماذا لا يكون ميزة وإضافة هامّة إلى دقّة التّعبير والوصف؟!..
واقع الحال..
.. وهو المخالف لطروحات "المحافظين" و"دعاة التّدريج" معا، ذلك أن الذين يعتبرون اللغة من المقدّسات لا يضيفون إليها سوى طموحهم الأيديولوجي، وهو طموح لا يعبر عن المقدّس بالضّرورة، بل هو مناوئ للمقدس في الغالب، ومعاكس له بالطبيعة؛ ولهذا كان من الطبيعي أن نندهش من استدلال ابراهيم حريري بقراءة جماعة إرهابية من "القاعدة" في قضية "اللهجات" العربية، فهؤلاء لا يمثلون "المقدس" في شيء، وإذا اتخذناهم معيارا في أشكلة "اللهجات" نكون قد خرجنا تماما عن الموضوع، ويفوتنا المبحث الحقيقي، والمفهوم الذي ينبغي أن يكون واضحا حتى نطرح الإشكالية الحقيقية لا الأوهام التي ورثناها من الأيديولوجيات التاريخية؛ لذلك يجب أن نوضّح بأن قدماء اللّغويين العرب، إنما يقصدون إلى "اللهجات" حين يتحدثون عن "اللّغات"، ومشكلة "اللحن" إنما طرحت عندهم على مستوى "اللغة" (اللهجة) لا على مستوى المؤسّسة اللّغوية (اللّغة العربية)، وهذا فارق دقيق يمرّ على كثير من الدّارسين دون أن يعيروه انتباها، فإذا أوضحنا أن "اللّغة العربية" نسق واحد مهما اختلفت اللّهجات، يتبين لنا أن "أشكلة الحروف" كما جاء بها حريري والعروي لا تقوم على أيّ أساس، واللغة التي يعتقد حريري أن "عصر التدوين" هو من رسّمها، إنما كانت مرسّمة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمائتين وخمسين عاما على الأقل (إذا اتخذنا من التأريخ للشّعر العربي محورا)، وهذه اللّغة العربية (التي نصفها بأنها الفصحى) هي التي كانت تحتمل "عنعنة تميم"، و"كشكشة ربيعة"، و"كسكسة هوازن"، و"تضجع قيس"، وغيرها من اللّهجات/اللّغات التي كانت متداولة على الطّبيعة كما هي الحال اليوم.
وهناك ملاحظة ثانية ينبغي أن لا تفوت الدّارس، وهي المتعلّقة بذلك الخلط بين لغة القرآن الكريم بما هي اللّسان العربي والمبين، ولغة العرب، بما هي اللّغة العامة للتواصل، إذ ينبغي التفريق بدقّة بين "اللسان" و"اللغة"، بعيدا عمّا تغذيه الأيديولوجيات من شعبويات لم تحقّق أي فائدة تذكر، فاللسان العربي الذي جاء به القرآن الكريم مختلف اختلافا جذريا عن المتداول بين العرب، ذلك أن القرآن الكريم يسمو باللّفظة إلى درجة الاصطلاح كما يقول أبو القاسم حاج حمد، وهو ما يعجز أي متكلم عن بلوغه، وهذا مستوى من الإعجاز اعترف به الجاهليون أنفسهم، ولم يقدروا على الإتيان بسورة من مثله، ولهذا ينبغي النظر بعمق في هذه المسألة قبل تقديم أي مقترح يتوسّم أنه قد يحقّق نهضة "اللّغة".
أما "دعاة التدريج" فهم لا يختلفون عن "المحافظين" كما سبق القول، لأن منطلقاتهم أيديولوجية محض، تحجب عنهم حقائق واضحة للعيان، فالقول بأن "المثنى" صعبٌ لا نرى عليه أي دليل، ولقد كانت اللغة العربية حيّة (ما تزال) وكان العالم كله يتعلّمها ويؤلف بها، بل إن الكنائس في القرون الوسطى خصّصت أقساما كاملة لتحضير متكلّمين بارعين بـ"العربية" بقصد الإفادة من التّراث العربي، وهؤلاء هم الذين أسّسوا لما يعرف اليوم بـ"الدراسات الاستشراقية"، ويكفي أن نعود إلى الأندلس في عهد سموّها، حتى نجد اللغة العربية مهيمنة على الكتابات العبرية والنّصرانية، دون أن يتحدث أحد عن إشكال يطرحه "المثنى" أو إشكال تطرحه "الهمزة المتوسطة" و"التاء المربوطة"..
أما اللغات/اللهجات، فهي ـ بشهادة فرديناند دوسوسير ـ ليست عوامل عرقلة للتّواصل ضمن الكتلة اللّغوية الواحدة التي لا تحتوي إلا مناطق انتقال غير مرئية..
مقترح تصحيح المسار..
يبقى سؤال "التطوّر" عالقا..
هل يمكن إحداث تطوّر لغوي بفرض قرار معين؟!.. هل يفيد حذف "المثنى" شيئا في تحقيق التّطور؟.. نعتقد بأن الأمر أكثر تعقيدا من مجرد الحذف أو الإضافة أو التعديل، فالتفكير على مستوى الأجزاء لن يغذي سوى "الأدلجات" التي لم تنفع في شيء؛ ذلك أن "اللغة" مؤسسة لا تخضع لفروض، ولا يمكن التّعامل معها بالمراسيم والقوانين، وحتى إذا سايرنا طرح آرسان درامستيتر في توصيفه لـ"التطوّر" على أنه تدافع بين "المحافظين" و"التطوريين"، فإننا نكون في حقل آخر غير الذي يقصد إليه العروي وحريري؛ وإذا وضعنا في اعتبارنا أن المؤسسة اللغوية عندنا،لم تتلق من الناطقين بها والكاتبين أي اصطلاح منذ سقوط دولة الموحدين، يتبيّن لنا أنه من الصعب تصور "نهضة" بمجرد حذف "المثنى" أو "المفعول لأجله"، لأننا لو أمعنا النّظر في المنتج الثقافي والعلمي العربي منذ عصر الموحدين، لما وجدنا سوى "مقدمة" ابن خلدون التي اصطنعت الجديد، وقدمت للعالم ما يستحق تعلّم العربية..
اللّغة الحية إذن، هي تلك التي تنتج المعرفة، وليست التي تتراكم فيها الأيديولوجيات، أو تعجز عن وصف الاثنين، ولهذا نعتقد أن منطلق "التطوّر" إنما يكون من التأسيس لجهاز من المفاهيم واضح، وبلوغ مرحلة الإنتاج المعرفي، فإذا بلغنا هذه المرحلة، سنرى بأن "المؤسسة اللغوية" تحتوي الحاجة إلى التعبير، وتقدم أدواتها بمنتهى السهولة.
هامش:
نشر المقال بجريدة "الخبر" الغراء، عدد 8279، ليوم السبت 24 سبتمبر 2016
يمكن لقراء "قراءات وبحوث" أن يتركوا تعقيباتهم وآراءهم على العنوان: contact@kadik.net