حينما تأسس قانون التأويل..

هكذا قرأ القاضي أبو بكر بن العربي..

يفصل أبو بكر بن العربي فصلا قاطعا في آيات الأحكام، ولا يرى مسوّغا لإعمال العقل فيها، ويضرب على ذلك مثلا بفريق من العلماء ذهبوا إلى أن "الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما قام الدليل على حظره"، مستدلين على ذلك بقوله تعالى: )هُوَ  الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا في الأَرْضِ جَميعًا([1]، ولكن هناك من رجّح الحظر، وهناك من رجّح الوقف، ويرى ابن العربي أن القول بالحظر أو الوقف استدلال بالعقل، ولا مدخل للعقل في الأحكام[2].

كتب محمد كاديك


صورة من الأرشيف
صورة من الأرشيف

وواضح أن مفهوم "العقل" هنا هو المعادل لـ"الرأي" المناقض لـ"النقل"، وليس المقصود العملية العقلية المحض، فلسنا نختلف إذا قرّرنا أن "النقل" نفسه يحتاج إلى اشتغال عقلي، لأن اختيار المادة المنقولة للاستدلال إنما هو عملية عقلية، وإن كانت هذه المادة تحجب عمل العقل أو تفرض عليه الركون إلى معنى قد لا يطيقه، ولكنه يتقبله إذعانا للنصوص، ولقد أكد ابن العربي ذلك ـ على غرار أستاذه أبي حامد ـ بقوله إنّه «لا يصحّ أن يأتي في الشرع ما يضادُّ العقل»[3].

ولخّص ابن العربي منهجه في القراءة بأنه كان يقارن بين ما مهّده له أساتذته وما جلبه العلماء الآخرون، فيسبر الموضوع بعيار مشايخه ليثبت ما اتفق عليه النظر، أما ما يتعارض فيشحذه حتى يخلص إلى نُضاره، فهو يذكر الآية، ثم يعطف على كلماتها بل حروفها، فيأخذ بمعرفتها مفردة، ثم يركبها على أخواتها مضافة، ويحفظ في ذلك قسم البلاغة، ويتحرز عن المناقضة في الأحكام والمعارضة، ويحتاط على جانب اللغة، ويقابلها في القرآن بما جاء في السّنة الصحيحة، متحرّيا وجه الجميع؛ ليعقب على ذلك بتوابع لا بد من تحصيل العلم بها منها، حرصا على أن يأتي القول مستقلا بنفسه، إلا أن يخرج عن الباب فيحيل عليه في موضوعه مجانبا للتقصير والإكثار[4]، ولقد حافظ ابن العربي على منهجه هذا في قراءاته للقرآن الكريم، وأوضحه مفصّلا في قانونه من خلال نماذج القراءات التي قدمها، فوصفه محمد السليماني بأنه «اعتمد على المنهج "الانتقائي"، فكان يستمد مادته من عدّة مصادر، ثم يلائم بين أجزائها بدقّة تجعل القارئ يحسّ بمدى ما يبذله في سبيل الانتقاء والدّقة معًا من الجهد»[5].

يعالج ابن العربي قضية التأويل في حدود الإيمان وتنزيه الذات الإلهية، ويرى بأنه لا يوجد حديث صحيح في الوعيد بتفسير القرآن بالرأي، فإذا كان الرأي عن دليل فهو الحق، وإن كان عن هوى مجرّد فهو الباطل، ويحدّد صاحب القانون القواعدَ المنهجية للنظر في القرآن بنقل الصحيح عن النبيّ r، والأخذ بمطلق اللغة، والتفسير بالمقتضى من معنى الكلام، ثم يضبط هذه القواعد بأن «يكون الناظر في القرآن يلحظه بعين التقوى، ولا يميل به إلى رأي أحد للهوى» مشترطا أن يكون النظر بعد استيفاء شروطه بالتحصيل العلمي[6].

ويوصي ابن العربي الناظر في القرآن بأن «يسرد الأقوال على قدر الحفظ، فيبطل المستحيل عقلا بأدلة العقل، والممتنع لغة بأدلة اللغة، والممتنع شرعا بأدلّة الشّرع، ثم يبقي الجائز من ذلك كلّه بأدلته المذكورة، ويرجّح بين الجائزات إن لم يمكن اجتماعها في التأويل دون الخروج عن منهاج العلماء»[7].

قانون التأويل ـ غلاف
قانون التأويل ـ غلاف

ويقرّ القاضي ابن العربي بأن «الطرق إلى الله كثيرة» لمن أراد أن يسلك في قانون التأويل طريقة توافق ما تنتهي إليه قوته في الحفظ والتركيب، ولكنه يضع الطريقة المختارة داخل إطار من الإجراءات المنهجية لا ينبغي إغفالها، مثل النظر في مورد القول للتحقّق من صحته، وهذا الإجراء يتعلق بما هو من السّنة فحسب، لأن النص القرآني منقول بالتواتر ثابت الصّحة، أما الإجراءات الأخرى فهي متعلقة بالنظر في دلالة اللفظ على المعنى، والفصل في النص إن كان اعتقاديّا أو عمليا، وإن كان متعلقا بالخالق أم بالمخلوق، ثم الأخذ لكل واحد بقانونه[8].

ويرفض ابن العربي العدول عن ظاهر النص لغير ضرورة، ويرى بأن «تأويل الخبر يُطلب إذا عارض ظاهرَهُ دليلٌ من الأدلّة العقليّة»، مستدلا في ذلك بأن تتبّع الآيات والأخبار يبيّن بأنه لم يرد منها شيء يردّ ظاهر العقل حتى يُفتقر فيه إلى تأويل[9]، وفي المقابل، يرى بأنه «لا مطمع في الإحاطة بمتعلّقات التمثيلات الواردة في القرآن والحديث، وإنما يأخذ كل واحد منها بمقدار ما تفيض رحمة الله عليه منها»[10]، أما إذا تعلّقت الأمثال بالذات الإلهية، فإن القانون يقتضي التنزيه، فقد «خبأ الله ـ والله أعلم ـ معرفة ذاته لمشاهدته، وأقام الأدلّة بمخلوقاته، ولذلك إذا نظرت إلى الأمثال في الكتاب والسّنة وجدتها على الصفات محالةً، وفي بيانها واردةً، والذّات مخبوءة تحت أستار الجلال والعظمة، يخبر عنها بالتقديس»[11]؛ وهكذا يتبيّن أن الأمثال المتعلقة بالذّات الإلهية إنما هي للصّفات وحسب، ويظهر أن العملية التأويلية ـ عند ابن العربي ـ تخضع لملكة الفهم ومستوى المعارف التي حصّلها الناظر، وهي عقلية محض ما لم تتعلق بما لا مطمع في الإحاطة به.

ولا تفوتنا ملاحظة أن ابن العربي انتقل بـ"التأويل" إلى المستوى الإبستمولوجي[12]، فقد أشار السليماني إلى أن كتاب "قانون التأويل" «لا ينسب إلى علم من العلوم الإسلامية على الوجه الواضح في النسبة إلى تلك العلوم، وإنما هو خلاصة لها على وجه العموم، فهو كتاب فريد في فنّه، جامع لشتيت الفوائد ومنثور المسائل ومتشعِّب الأغراض.»[13]، ويؤكد الدكتور السليماني ذلك بتصديق المؤلف فيما ادعاه من وضعه لهذا القانون لعموم آي التنزيل «فقد تناول فيه ما تباعد من العلوم المتصلة بالإسلام تناول التقريب والتأليف، حتى أخرج من مجموعها مدارك عائدة على جميعها، تبصر بالغايات، وتكشف عن أسرار الحياة»[14]؛ ويبدو هذا الانتقال بـ"التأويل" إلى المستوى الأعلى في أثناء أطوار الرحلة التي رواها ابن العربي في مستهلّ كتابه، وضمنها كثيرا من القواعد بالتلميح والإشارة تارة، أو التصريح والمباشرة تارة أخرى، فقد بدأها بذكر ابتداء طلب العلم كأنه يروي لمعة من سيرته، ولكنه في الأثناء ظل يوجّه قارئه إلى المصادر العلمية التي لا ينبغي أن يخطئها في مسيرة تعليمه، ثم يواصل على نفس النهج في الرحلة، فيذكر العلماء الذين التقاهم والكتب التي طالعها، وهو في كل ذلك يلقي بوصاياه مضمّنة في أمثاله، ونضرب على ذلك مثلا، اللقاء الذي جمعه بأحد الأمراء وهو يلعب الشطرنج، وكان ابن العربي في حداثة سنّه، ولكنه عرف أن الأمير أعلم من صاحبه باللعب، وراح يشير عليه بما يحرّك من القطع حتى تمكّن من صاحبه، فعظم ذلك في عيني الأمير وقرّبه، واختبر علمه، فأكرم وفادته، فقال ابن العربي: «فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب، مع تلك الصّبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذت من العطب، وهذا الذكر يرشدكم ـ إن عقلتم ـ إلى المطلب»[15]، وهو ما يعني أن ابن العربي يستحثّ الناظر في القرآن الكريم على الإلمام بكلّ المعارف حتى وإن بدا له أنها معارف وضيعة لا تفيد شيئا.

ويُحكِم القاضي أبو بكر قانونه من خلال التطبيقات التي يوردها كلما اقتضت الحاجة إلى توضيح مفهوم بعينه، والتقسيم الذي اختص به علوم القرآن فجعلها ثلاثة، أولها في التوحيد، والثاني في الأحكام والثالث في التذكير، فالنَّظرُ في القرآن على حسب هذه الأبواب ينبّه على الغرض كما أشار ابن العربي.

أما فيما يخص إمكان التعارض بين العقل والشّرع، وهو ما لا يكون إلا بتقصير من الناظر، فقد سار ابن العربي فيه على نهج أستاذه الطوسيّ، ورأى للناظر أن يتوسّط فـ«يجعل العقل والنقل كلاهما أصلا، وينظم سلك المعرفة من دُررِهما»، إلا أنه فصّل في القضية على أساس أنه «قد تأتي في الشريعة ألفاظ لا يبيّن الشرع معناها، ولا يهتدي العقل إلى معرفتها، فيلزم إثباتها عقدا»، وأثبت أنه في حال التعارض بين الآية والخبر، فإن «الآية مقدّمة لأنها مقطوع بصحتها، والخبر لا يقطع به»[16].

ونظر ابن العربي في الحروف المقطعة التي جاءت في فواتح السور، كما خصّص جانبا للمحكم والمتشابه في القرآن الكريم، وخلص إلى ذكر تيسير العمل بالعلم بعد بلوغ منتهى القانون، وذهب إلى أن العمل يقتضي الاعتقاد والإخلاص، إتماما لمنهجه في القراءة، وهو يقتضي ـ من البداية ـ معرفة النفس ومعرفة الربّ سبحانه، فالعملية التأويلية في مجملها لا تكون إلا في إطار الإيمان وتنزيه الذّات الإلهية.

ولم يغفل ابن العربي عاملا مهمّا في ازدهار الحقل العلمي، وهو عامل السّلطة وتأثيرها المباشر في الوضع الثقافي، فقد ضمّنه في ثنايا حديثه عن الرحلة· سواء في ذكر لقاء أمير بني كعب ببرقة الليبية، وهو اللقاء الذي ذكرناه آنفا، أو في باب "ذكر المعرفة بأمير المؤمنين حين كان عونا على طلب علم الدين"، وهو الذي خلص فيه إلى القول: «..ونعم العون على العلم الرئاسة.»[17]، ولسنا نرى حاجة في شرح موقف ابن العربي من السّلطة، ولكننا ـ تجنّبا لأي وهم ـ نقول بأنه يقصد هنا إلى عناية السّلطة بالعلماء، وإيلائهم بما هو من حقهم من «الأمن والاستيطان» بتعبير ابن العربي، أي أن تكون السلطة عونا على طلب العلم، لا أن يكون العالم خادما لإيديولوجية السلطة، فالنظر ـ عند ابن العربي ـ يكون بعين التقوى، وليس بالميل إلى رأي أحدٍ للهوى، كما سبق القول.


هوامش:

[1] ـ سورة البقرة، الآية 29.

[2] ـ انظر أبو بكر بن العربي، الأحكام الصغرى، تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، 2006. ص15.

[3] ـ انظر أبو بكر بن العربي، قانون التأويل، سبق ذكره، ص 351.

[4] ـ أبو بكر بن العربي، أحكام القرآن، (بتصرف)

[5] ـ قانون التأويل لابن العربي، سبق ذكره. من دراسة محمد السليماني ص 34.

[6] ـ ابن العربي، نفسه، من ص 366 إلى 368.

[7] ـ ابن العربي، نفسه، ص 273. بتصرف. (يبرر ابن العربي رفضه الخروج عن منهاج العلماء بقوله: «فقد اهتدى من اقتدى، ولن يأتي أحد بأحسن مما أتى به من سبق أبدا» ص247، ونرى أن قراره هذا ليس قانونا يضعه، وإنما هو ضابط يلجأ إليه تجنبا لآفات التأويل، ودليلنا على ذلك أن ابن العربي في قانونه يخالف أستاذه الغزالي ويقول: «فناشدتكم الله إلا ما تأملتم هذا الكلام بسياقه، وحكمتم فيه بيني وبين معلمي، فإني استجرأت عليه بما تعلمت منه» ص360، وليس يخفى أن ابن العربي يتوسم أنه أتى بأحسن من أستاذه.

[8] ـ انظر ابن العربي، نفسه، 275 و276. وما وصفناه بالإجراءات هنا، مفصل في القانون ص 183.

[9] ـ قانون التأويل لابن العربي، سبق ذكره. ص251.

[10] ـ نفسه، ص 169. بتصرف.

[11] ـ نفسه، ص 147 و148.

[12] ـ يعتبر المستوى الإبستمولوجي طابعا أساسيا لكل نظرية محكمة التشكل، ومن حقه، التحقق من صلابة المستوى المنهجي، ونقده باختبار انسجامه وقياس معادلته بالنسبة للوصف وطرق الاكتشاف، راجع مادة: إبستمولوجيا، د. سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1985.

[13] ـ ابن العربي، سبق ذكره، ص 27.

[14] ـ نفسه، ص 26.

[15] ـ نفسه، ص 89.

[16] ـ نفسه، ص 352.

  • ـ يجب أن نوضح بأننا حين نتكلم عن "الرحلة" إنما نقصد فاتحة كتاب "قانون التأويل"، ولقد اضطررنا لهذا التوضيح لأن هناك من يعتقد بأن كتاب ابن العربي نفسه هو "كتاب الرحلة"، وبرهن محمد بن الحسين السليماني على خطأ هذا الطرح، وأكد أن ابن العربي اختار لكتابه عنوان: "قانون التأويل"، ومردّ الخطأ في ذلك أن ابن خلدون أطلق عليه "فوائد الرحلة"، وأطلق عليه السيوطي: "كتاب الرحلة"، وقال الدكتور السليماني: «أعتقد جازما بأنهما يقصدان بهذه التسمية كتاب "قانون التأويل" إذ أنهما نقلا عنه نصوصا كثيرة لا تترك مجالا للشك أو الريب في ذلك، فتسميتهما له بـ"ترتيب الرحلة" أو "كتاب الرحلة" هو اجتهاد منهما، لاحتمال أنهما وقفا على مقدمة "القانون" فقط، ولكن لم يقفا على عنوان الكتاب كما اختاره المؤلف». ا.هـ، انظر: قانون التأويل، نفسه، ص 24.

[17] ـ ابن العربي، قانون التأويل، سبق ذكره، ص 116. ويمكن مراجعة شرحه لافتقار العلم إلى السلطان في قانونه من ص 362 إلى 365، وهو يوافق ما نذهب إليه.