شيء في النّقد..

“أدب الأطفال” ليس حقل الكسالى..

يعرّف رونيه ليون “أدب الطّفل” بأنّه مجموع الحكايات الّتي تتوجّه إلى الطّفل وإلى خياله، فتقدّم له رؤى مختلفة للعالم، وتنقل إليه عددا معيّنا من القيم، ويتّفق كثير من الكتّاب والنّقاد على أن “القصص” تقوّي الرّوابط بين الطّفل ومحيطه، وتطوّر قدراته على القراءة، وتمنحه الثّقة بنفسه من خلال دعم قدراته في التّعبير عن نفسه بتلقائيّة، ومنافع أخرى كثيرة قد لا نحصيها عدّا..

محمد كاديك
كتب: محمد كاديك

ولا شكّ أن تعريف ليون حصيف ومنسجم مع ما ينبغي أن يكون عليه الخطاب في دائرة “أدب الطّفل”، خاصة على مستوى “رؤية العالم” و”تمرير القيم”، ولكنّه يُلغي المنظومة الأجناسيّة لهذا الأدب حين يكتفي منها بـ”الحكاية”، ولا يشير إلى “القصّة” و”القصّة المرسومة” و”الرّواية” و”الأنشودة” و”القصيدة” و”المسرحيّة”، وكلّ ما تتضمّن أيّ منظومة أجناسيّة أدبيّة، شرط أن لا تغفل مسألة المشترك الإنسانيّ، وعلى هذا، يكون “أدب الطّفل” مجموع الأعمال الأدبيّة المخصّصة للطّفل، وليس “الحكايات” التي فرضت نفسها على التّصوّر العام لـ”الأدب”  بسبب انصراف التّفكير  إلى ما هو شفاهيّ بحكم طبيعة التّعامل مع الأطفال، رغما عن المقصد الذي يرفع لافتة القراءة، ثم إن “الحكاية” ظلّت – منذ مطلع القرن العشرين – موضوعا نقديّا معتبرا عند الشّكلانيين والمختصّين بالإثنولوجيا، وبعلم النّفس، ولعلّ هذا ما يجعل النّقاد يركّزون عليها، ولا يلتفتون إلى بقيّة الأجناس، حين يتعلّق الأمر بتخصيص الأدب أو القراءة.

ولقد تطوّر الأدب المخصّص للأطفال، وعرف أسمى لحظات ازدهاره في حوالي منتصف القرن التّاسع عشر، إذ لم يعرف التّاريخ قبل يوهان غوتنبرغ، مادة أدبيّة يمكن وصفها بأنّها تخصّ فئة عمريّة معيّنة، أو أعمال تقتضي مناهج صارمة في التّعامل، فالأجناس، شعريّها وأدبيّها، كانت تمرّر رسائلها إلى الجميع دون استثناء، ولم يكن هناك ما يستدعي “الرّسوم التّوضيحيّة”، ولا التّركيز على “المرح” و”بهجة الألوان”، ولا حتى التّريّث في تقديم رؤية والتّحفظ على رؤية أخرى، بل لم يكن هناك ما يستدعي الكتاب في ذاته، فـ”البطل الملحميّ” كان قوّاما على وظيفته في صنع المخيال العام، وأدّاها بكفاءة، وظلّ مهيمنا إلى أن تغيّر المنظور التّربويّ في القرن التّاسع عشر، وفق المعارف التي توفّرت في مختلف العلوم.

  • الأدب ليس التّربيّة..
شارل فيلدراك
شارل فيلدراك

الطّفل قارئ من ذهب.. هكذا وصفه شارل فيلدراك (charles vildrac) في مقال له بالعدد الخامس من مجلة (Littérature enfantine) الصّادر عام 1953،فالطّفل لا يتحفّظ في منح النّصوص تعاطفه، حتى وإن خيّبت هذه النّصوص ظنونه، وهدمت آفاق انتظاره، وهذا – فيما نرى – هو ما شجّع كثيرين من أنصاف الكتّاب على اقتحام عالم الكتابة للطّفل، بل لقد ذهب بعضهم إلى أنّ هذا النّوع من الكتابة (لا يتطلّب مهارات ولا معارف ولا مؤهلات بعينها) ويستدلّ هؤلاء على حصافة رأيهم، واستقامة نظرتهم، بـ”النّاشرين” الذين يتقّبلون الأعمال دون أيّ سؤال عن المستوى التّعليمي للكاتب، ولا عن مساراته في الكتابة!!.

وإذا كان واضحا بأنّ رأي النّاشرين لا يهمّ كثيرا في المسألة، فهؤلاء في معظمهم – عندنا بصفة خاصة – لا يجدون حاجة في اعتماد لجان مؤهّلة للقراءة، ويكفيهم أن يقدّموا للسّوق حاجتها من المادة المضمونة، ما دام القارئ الصّغير يتقبّل كلّ الألوان، ولا يمارس النّقد، غير أنّ الكتابة للطّفل، في حقيقتها، تقتضي مهارات ومؤهلات ومعارف وورعا أكثر مما ينبغي للكتابة الأدبيّة العادية، وأوّل ما ينبغي التّخلص منه حين الكتابة للطفل، هو تلك الرّؤية التربويّة الضّيقة المعبّرة عن النّظرة الدّونية التي تختصّ بها مجتمعاتنا الأطفال باعتبارهم قصّرا، لا مجال لهم في الرّأي ولا في الرّؤية، على أساس أنهم لا يستطيعون تقدير مصالحهم، وغاية الجهد معهم تقتضي التّوجيه الصّارم نحو ما ينفع (وفق رؤية راشدة طبعا)، ولعلّ هذا الموقف هو ما يحرّك الرّوح الأبويّ في معظم الأعمال، ويحوّلها إلى “توجيهات مباشرة” خالية من عبقريّة الأدب الذي يمرّر رسائل التّربية ويتحمّل أعباء ترسيخها في المخيال العام، ولكنّه – في أصله – ليس تربية، ولا علاقة له بمناهج التّربية، وعلى هذا، لا يجب أن نكتب للأطفال إذا كنا لا نستطيع التّخلي عن مكانتنا وإحساسنا بتفوّق الشّخصيّة الرّاشدة فينا، فـّالأطفال – على رأي فيلدراك – ليسوا مغفّلين (…) وينبغي الحديث إليهم كأنداد مساوين لنا، تماما مثلما ينبغي التّخلص من النّزعة التّعليمية، حتى وإن تعلق الأمر بكتاب مدرسي أقل جاذبيّة من الرّواية أو الحكاية التّرفيهيّة.

  • صناعة المخيال..

لعلّنا أوضحنا أن الخطاب الأبوي التّوجيهيّ لا يخدم العمل الفنّيّ، وإنما يجعله مسطّحا جافّا بعيدا عن أداء رسالته التي يتبنّاها، ويبحث عن ترسيخها، ولكنه، مع الأسف، مهيمن على حكايات وقصص ومجلات كثيرة في الوطن العربي، وهذه تقف حجر عثرة أمام كل جهد يحرص على تنمية المخيال العام، ولا تضع في حسبانها أن الطّفل – وفق وفاء إبراهيم – “يتعرّف إلى العالم حوله من خلال وقع الجمال عليه، فهو يبدأ بإدراك كيفيّات ما يحيط به من لون وصوت وشكل (…) وبهذا فهو يقدّر القيمة الجماليّة حتى وإن لم يمتلك القدرة على التّصريح بذلك”، وبناء على هذا، يكون الرّوح الأبويّ الذي نفرضه على الأعمال الموجّهة إلى الأطفال تثبيطا للوعي الجمالي الذي ينبغي أن يطوّره الطّفل من خلال معارفه المكتسبة؛ ولهذا، أوصينا في مقال لنا يتعلّق بـ”إشكاليّات صناعة البطل” في قصص الأطفال، بـ”ضرورة تجاوز الأسلوب الجافّ الّذي يعتمده كثير من كتّاب القصص والحكايات، في تقديم النّماذج البطوليّة، بل دعونا إلى تجنّب كلّ ما يحيل إلى أساليب الكتب المقرّرة في التّدريس، ولقد قدّرنا أنّ استغلال تقنيّة “الجذّاب/الممتع” في تقديم النّماذج البطوليّة، أكثر نجاعة، ولعلها تمثل الأسلوب الأوحد الّذي يكفل تمرير القيم، وترسيخها بسلاسة، بعيدا عن أجواء التّمدرس.

ولقد سبق وأشرنا – في ندوات وملتقيات مختلفة – أن الأعمال الموجّهة للأطفال، وتلك التي تُعنى بالنّماذج البطوليّة بصفة خاصة، تغفل آلية “التّحويل الدّرامي” (La Dramatisation)، ولا تضع في حسبانها ما يسمّيه ميخائيل باختين “المسافة الملحميّة” (Distance épique)؛ ولهذا لا تتمكّن من قراءة الحاضر في الماضي المكتمل، أو الماضي المطلق الذي يحتفظ بكلّ السّموّ، مثلما لا يتاح لها استحضار العلاقة بين “البطل” و”العالم”، فتضيّع – بالتّالي – تراتبيّة القيم الّتي ينبغي لها أن تمرّرها مضمّنة في الأحداث، وترسّخها من خلال الشّغف الذي تصطنعه عناصر الحكي.

  • النّقد.. ذلك الغائب..
إيزابيل جان
إيزابيل جان

ولا يستوي الأدب في غياب النّقد، ولكن، قبل التّعرض إلى طبيعة النّقد التي نقصد إليها، ينبغي أن نسلّط بعض الضّوء على مفارقة عجيبة تميّز واقعنا الأدبيّ في عمومه، إذ لا يفوتنا أنّ سوق الأدب المزدهرة، إنما هي سوق الكتاب الموجّه إلى الطفل، سواء كان قصة أو حكاية أو أناشيد وقصائد أو حتى كتابا شبه مدرسي، غير أنّنا من النّادر أن نقرأ لناقد شيئا، يتجاوز المجاملة فيما يخصّ الكتابة للأطفال، باستثناء بعض الجهود الأكاديمية التي يؤطّرها عدد قليل من الأساتذة من أمثال البروفيسور العيد جلولي بجامعة ورقلة، أمّا الجهد الأكبر للنّقد والقراءة، فهو يتوقّف عند الرّواية (المخصّصة للكبار طبعا)، أو بعض نقد النّقد، أو النّقد الثّقافي في أحسن الأحوال، وهذا يعني أنّنا أمام  مشهد يتضمّن سوق كساد تحظى بالاهتمام كلّه، وسوقا مزدهرة لا تكاد تجد من يلتفت إليها، حتى كأنّ النّقد ينبغي أن يهتمّ بـ”سلامة” القارئ الرّاشد وحده، ولا شغل له بالنّصوص التي تصنع له قارئه، بل النّصوص التي تصنع له كاتبه الرّاشد أيضا..

ولسنا نلوم على النّقاد عدم اهتمامهم بالأدب الموجّه إلى الأطفال، ذلك أن هذا النّوع من الكتابة، يقدّم نفسه بلا تاريخ واضح، من جهة، ثمّ إنّ مجرّد نسبة الأدب إلى الطّفولة، من جهة أخرى، تجعل السّؤال النّقدي المركزي متعلّقا بتجنب “التّعليميّات” و”التّعليمات”، غير أن النّقاد عملوا على وضع تصوّرات منهجيّة للتّعامل مع أجناس هذا الأدب، ويكفي أن روجي فايول (Roger Fayolle) لم ير في الممكن من نقد الأعمال الموجهة إلى الأطفال، سوى ما يكون “دوغمائيّا ومثاليّا”، أي ما يعالج النّصوص  بمعياريّة تحيل إلى نموذج بعينه، وإن كان هذا النّقد لا يختلف عن “الوعظ والإرشاد”، باعتراف فايول نفسه، بينما تذهب إيزابيل جان (Isabelle Jan) إلى أنّ البقاء في حيّز الأفكار العامّة حول “الخيّر” و”الجميل” اللّذين يتأسّس عليهما النّقد الكلاسيكي، لا يقدّم أيّ معلومة مهمّة، ولا يصف أيّ سيرورة نقديّة؛ ذلك أنّ حكمنا اليوم على كتاب بأنه “جيّد”، أو على عمل بأنّه “جميل”، لا يضيف شيئا ذال بال، فـ”الأدب” يقدّم “الجميل” بالضّرورة، ولا يكون أدبا دون ذلك.

ومادام الشّكلانيّون الرّوس قد وضعوا أسس دراسة الحكاية الخرافية مع فلاديمير بروب، ثمّ تعدّدت مشارب دراسات هذه الحكايات حتى بلغت سيميائيات غيرماس، ولم تكفّ عن الفتوح، فإن المتاح من الأدوات اليوم يكفل تقويما أفضل للأعمال الأدبيّة الموجّهة إلى الأطفال، ويسمح بوضع تصوّر عام عمّا ينبغي أن تكون عليه الكتابة للطفولة، بعيدا عن الوعظ والإرشاد بطبيعة الحال، وبعيدا حتى عن فرض نموذج نهائي مكتمل، فالأصل في الأدب أنه مرتبط بحاسّة “الإبداع”.

  • ختاما..

سنختم دون أن نتعرّض إلى السّؤال الذي أصبح مقالا في كل مقام، وهو المتعلّق بطفل “العصر الرّقمي”، فقد صار هذا السّؤال يصطنع متتالية من الإشكاليّات الوهميّة، ويخترع أطروحات من قبيل الفارق بين الكتاب الورقيّ والرّقمي، أو التّطبيقات الرقميّة بين نجاعة أدائها وخطرها على ذائقة القراءة، أو صعوبة مراقبة الأطفال على الشّبكة، وكثير من هذه الأوهام التي يصطنعها أناس لا يدركون مضمون “الرقميّة” ولا طبيعة أنترنيت، ولو أن هؤلاء يخالطون الكتاب الرقمي، أو يعرفون الشبكة لأعفوا القراء من اللّغو، فالكتاب الرّقمي لا يختلف في شيء عن الكتاب الورقي سوى في طبيعة الواسطة، ومخاطر الشّبكة يمكن ضبطها ببرامج مثل “كاسبيرسكي” و”أفيرا” وغيرهما، تحظر كل ما يمثّل خطرا على الأطفال.

إنّ ما نراه خطرا حقيقيّا في أدب الطفولة، هو ذلك الخطاب الذي يقتحم براءة الأطفال، فيهدمها، وهو يعتقد أنّه يحسن صنعا.. إنّه الخطاب الملغّم الذي يتصدّى لمكافحة آفات التّدخين والمخدّرات وما شابه، فيتوجّه إلى أطفال لا يعرفون عن هذه الآفات شيئا، ولا يعيرونها اهتماما، فتكون النّتيجة عكسيّة، بتحصيل حاصل، بعد أن ينبّههم إلى ما غفلوا عنه، ويوقظ رغبتهم العارمة في الاكتشاف، ويحضّهم – بقصد أو دون قصد – على تجريب ما لا يعرفون، واختبار ما يجهلون.. وهذه آفة الآفات فيما يخدش براءة الطّفل من أعمال، لا نستثني منها الكتب المدرسيّة..


نشر بجريدة الشعب يوم السبت 05 جوان 2021